[تفاصيل يوم بدر]
ومعلوم أن يوم بدر يوم مشهور، وسأتحدث عنه إجمالاً فيما يغلب على الظن أن فيه فائدة.
الحالة الاقتصادية في المدينة كانت ضعيفة جداً قبل بدر، فكان الشغل الشاغل للصحابة -لما سمعوا بعير قريش- أن ينالوا القافلة، حتى يتحسن الوضع الاقتصادي، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر همهم أن ينالوا القافلة، لكن الله أبدلهم من القافلة خيراً منها، وهو أن الله أعطاهم النصر، ومكن لهم، وأخذوا بعد ذلك الفدية من قريش، فأعطاهم الله جل وعلا فوق ما يؤملون.
أبو سفيان حارب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد، وجمع الأحزاب، ومع ذلك مات على الإيمان، فسبحان مقلب القلوب يفعل بعباده ما يشاء، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك).
لأن عاتكة بنت عبد المطلب -أخت العباس وعمة النبي صلى الله عليه وسلم- قبل يوم بدر بثلاثة أيام، رأت في المنام أن رجلاً يستغيث بالأبطح ويقول: يا آل غدر انفروا لمصارعكم في ثلاث، ثم تنقل من مكان إلى مكان، ثم صعد جبلاً ثم ألقى صخرة، فانفلقت حتى لم يبق بيت من بيوت أهل مكة إلا ودخله شظية من الصخر.
فقصت الرؤيا على أخيها العباس، فقال لها العباس: اكتميها، والله إنها لرؤيا، فقالت: أظنها مصيبة ستحل بقومنا، فأخبر العباس الوليد بن عتبة وكان صديقاً له.
وقد قيل: كل سر جاوز الاثنين شاع، وكل علم ليس في القرطاس ضاع! أما الأولى: كل سر جاوز الاثنين شاع فصحيح، لكن: كل علمٍ ليس في القرطاس ضاع ليس بصحيح؛ لأن الله يقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٩] ولم يقل: إنه في الكتب.
نعود فنقول: لما قص العباس القصة على الوليد بن عتبة أخبر بها الوليد غيره، فانتشرت في قريش، فلما بلغت أبا جهل نادى العباس، وتوعده وتهدده، وقال: يا بني عبد المطلب، أما كفاكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ وكان أبو جهل رجلاً خبيثاً، حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، لا يستطيع أحد أن يقاومه، دخل دار الندوة قبل أن يطر شاربه، رغم أن دار الندوة لا يدخلها رجل في قريش إلا بعد الأربعين، لكن أدخلوه إياها محكماً من أول أمره، لعلو شأنه وهو صغير.
فنادى أبو جهل العباس، وأخذ يتوعده ويهدده، فلم يجد العباس مفراً من أن يجحد وينكر، فلما ذهب العباس إلى داره اجتمع عليه آل عبد المطلب، وعاتبوه ولاموه، كيف تضعف أمام أبي جهل؟ فأجمع أمره على أن يرد على أبي جهل، فلما انصرف بعد ثلاثة أيام قابل العباس أبا جهل، وناداه ليرد عليه، وإذا بـ ضمضم الغفاري الذي استأجره أبو سفيان وبعثه يستصرخ في قريش يصرخ مثل ما قالت عاتكة في الرؤيا، فكان أبو جهل ممن سمع الغوث فترك العباس وخرج، ثم خرج العباس وخرج الناس ينشدون ماذا يريد ضمضم؟ وانتهى أمر الرؤيا.
يعني: انشغلت قريش عن الرؤيا.
ثم خرجت قريش بعد أن استنفرهم ضمضم الذي بعثه أبو سفيان.
والتقى الجمعان كما قال الله جل وعلا في بدر، وبدر اسم لرجل يقال له: بدر بن حذافة كان قد حفر بئراً في هذا الموطن، فسمي المكان باسمه إلى يومنا هذا، وهذا يدل على أن هناك أشياء تبقى مع الأيام لا تتغير عن اسمها الأول.
ومر النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه بالروحاء، ومر بالمنصرف وهي المسيجيد الآن، ومر برحقان -الجبل المعروف- ومر بالمضيق حتى وصل إلى بدر، وهناك في بدر التقى الجمعان كما أخبر الله جل وعلا.
استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ لأن النبي وفي، وهو يعلم أن العهد الذي بينه وبين الأنصار على أنهم يحموه داخل المدينة، وبدر خارج المدينة، فأخذ يقول: أشيروا عليّ أيها الناس! أشيروا عليّ أيها الناس! ثم سمع من الأنصار ما سمع مما يدل على صدقهم ونصرتهم لدين الله، فقال: امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما النصر وإما القافلة.
فلما كان في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم ليلته بدر يدعو ويتضرع إلى الله ليقيم التوحيد، ويحقق العبودية لله, وإلا فهو يعلم قطعاً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه: (امضوا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين)، فالطائفة الأولى وهي القافلة فرت ونجت، فلم يبق إلا الثانية، ووعد الله حق، فكان يعلم أنه منصور، لكنه أراد أن يحقق أعظم ما كلف الله به العبيد، ألا وهو تحقيق التوحيد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو حتى سقط رداءه، فرق له أبو بكر فقال: يا نبي الله! كفاك بعض مناشدتك ربك، يعني: على مهلك! فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً).
وكان أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، وهو عدد جيش طالوت الذي قال الله فيه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:٢٤٩].
ثم كانت موقعة بدر في السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة في يوم جمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على غير صيام، ولهذا كان عمير بن الحمام بيده تمرات يأكل منها ثم ألقاها وجاهد في سبيل الله، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه.
نجم عن المعركة كما هو معلوم قتل سبعين من أهل الإشراك وأسر سبعين، والمسلمون في يوم أحد لم يؤسر منهم أحد، وإنما قتل منهم سبعين، ولهذا قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:١٦٥].
{أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:١٦٥].
أي: في بدر، ففي بدر قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، أما في أحد فالذي أصابكم نصف ما حصلتم عليه في الأول، فقد قتل منكم سبعون ولم يؤسر منكم أحد.
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ليتصرف في القتلى، وبعث عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد على ناقته القصوى يبشرون أهل المدينة بانتصار نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في بدر، ثم ألقي قتلى قريش في القليب، وهو البئر المهجور المتروك في بدر.