للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:

[خصائص مكة المكرمة]

ومن خصائصها: أن الله جل وعلا حرمها يوم خلق السموات والأرض، وهذا من أعظم دلائل اصطفاء الله لتلك البقعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)، ولم يحلها جل وعلا لأحد من الخلق إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، وذلك في يوم الفتح، ولما انتهى الفتح ردها الله جل وعلا حراماً.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (فمن أخبركم أن النبي قاتل فيها فأخبروه أن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار).

الأمر الثاني: حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره عن الله أنه لا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تأخذ لقطتها إلا لمعرف، فالإنسان إذا رأى أي شيئاً في مكة يتركه على ما هو عليه.

من عظمتها عند الله أن الله جل وعلا أنه لم يبحها لأي أحد من الجبابرة عبر التاريخ كله، ولذلك حبس عنها الفيل.

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم كرامة الله له فقال: (إن الله حبس الفيل على مكة وسلط عليها محمداً وأصحابه)، ولما بركت القصواء وقال الصحابة: خلأت القصواء قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).

وأهل الفيل قدموا بالفيل يريدون مكة، وهم أبرهة وجيشه، وكانوا نصارى أهل كتاب، وكان القرشيون وثنيين، ومع ذلك نصر الله الوثنيين على أهل الكتاب لكرامة مكة، وإلا فالأصل أن أهل الكتاب أقرب إلى الملة من الوثنيين، كما في آية: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:١ - ٢]، لكن الله جل وعلا حبس الفيل عن مكة، فأينما يوجه يتوجه إلا إلى الكعبة فلا يستطيع، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:١ - ٢]، وكلمة ضل في اللغة تأتي على ثلاث معان: تأتي ضد الهداية العامة التي هي هداية الإيمان، وهذا أكثر استعمال القرآن، ومنه قول الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧]، وتأتي بمعنى: عدم إصابة هدف محدد، ومنه قول أبناء يعقوب عن أبيهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:٨]، لا يقصدون أن أباهم كان كافراً؛ لأنهم لو قالوا هذا لكفروا، لكنهم يقصدون أن أباهم ما أصاب الصواب في حبه ليوسف.

وتأتي بمعنى: اضمحل وأصبح هباء، ومنه قول الله جل وعلا: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:٢]، وقوله سبحانه: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:١٠]، أي: إذا ذبنا واضمحللنا في الأرض وذهبنا هباء منثورا هل سنعاد؟ المقصود: أن الله سلط عليهم الطير، وقد قلنا في درس سابق: إن الأصل في الطير أنه مصدر أمان فلا يوجد أحد يخوف بالطير، فلما أرادوا هدم أعظم مكان آمن وهو الكعبة سلط الله عليهم الخوف من حيث لا يحتسبون، فأظلتهم الطير وهم يعتقدون أنهم في أمن، إذ ليست ريحاً يخوفون بها، ولا كواسر وسباع ضواري تأكلهم، فلما اطمئوا بعث الله جل وعلا عليهم حجارة من سجيل.

جعل الله جل وعلا في مكة بيته الحرام وهو أول بيت وضع للناس، ولا يوجد في الشرع بيت يطاف حوله إلا البيت العتيق، وسمي بالعتيق لأن الله جل وعلا أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إليه.

أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا البيت لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعة، ولهذا فإن الحملات الصليبية دخلت بيت المقدس ووصلت إلى أطراف الجزيرة واقتحمت الشام مع فضل الشام وما جاء فيه، لكن لم تستطع أي حملة صليبية أن تصل إلى مكة، ولن تستطيع إلى قيام الساعة؛ لأن مكة بيضة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عهداً من ربه ألا يسلط على المسلمين من يستبيح بيضتهم فأعطاه الله جل وعلا هذا العهد، فلو جلبت أمم الأرض من أقطارها على أن يدخلوها فلن يستطيعوا أن يدخلوها إلى أن يؤذن بقيام الساعة فيأتيها ذو السويقتين من أرض الحبشة يهدمها ويقلعها حجراً حجراً، ويستخرج كنوزها أي: الكعبة.

وبعد ذلك لا يطاف بالبيت، ولا يبقى على الأرض مسلم، ثم على هؤلاء وهم شرار الخلق تقوم الساعة.

جعل الله جل وعلا في مكة بيته، وجعل شعائر عظمى منها المشعر الحرام، ومنى، والصفا، والمروة، ومقام إبراهيم كما قال الله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧].

منع الله شرعاً أن يدخلها الكفار، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨]، فلا يحل لأحد أن يدخل رجلاً مشركاً أياً كان -كتابياً أو غيره- إلى مكة، بخلاف المدينة فلا يوجد دليل شرعي على أن الكفار يمنعون من دخولها، لكن هذا رأي رآه ولاة الأمر وفقهم الله، وهو ألا يدخلها أحد غير المسلمين، والأمر إليهم، وإلا فلا يوجد مانع شرعي يمنع دخول أهل الكفر إلى المدينة؛ لأن أبا لؤلؤة المجوسي كان عابد نار وقتل عمر رضي الله عنه وكان يعمل حداداً داخل المدينة، وعمر رضي الله عنه لما بلغه أنا أبا لؤلؤة هو الذي قتله كان يعرف أنه مجوسي فقال: الحمد لله الذي لم يجعل موتي على يد مسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:٢٨].

جعل الله من خصائصها: أن الصلاة في مسجدها بمائة ألف صلاة ولا يوجد هذا إلا في المسجد الحرام، وجمهور العلماء على أن الصلاة في أي موطن في مكة بمائة ألف صلاة حتى في البيوت لأهل الأعذار، وأما المدينة فالصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فقط، وذلك دون الصلاة في أي مكان خارج المسجد، فخارج المسجد لا تحسب الصلاة بألف صلاة، واختلف الناس في ساحات المسجد الموجود الآن، والصواب أن الصلاة في ساحات المسجد بألف؛ لأن الفقهاء من الحنابلة يقولون: إن رحبة المسجد -أي: المحيطة به- لا تخلو من أحد حالين: إما أن تكون مسورة ولها أبواب فتلحق حكماً بالمسجد، وإن لم تكن مسورة وليس لها أبواب فلا تلحق بالمسجد.

والساحات التي حول الحرم النبوي مسورة ولها أبواب، فالصواب أنها تلحق حكماً بالمسجد، لكن من أتى إليها فليدخل المسجد، فإذا ازدحمت صلى في الساحات كما يصلي الناس التراويح والأعياد في الساحات.

أما السيئة فالمشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السيئة في مكة بمائة ألف، لكن أكثر أهل العلم على خلاف هذا؛ لأن الله قال في آيات محكمات: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠]، فلا يرد محكم القرآن برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لكن السيئة فيها التغليظ كيفاً لا كماً، أي: لا يكثر عددها، لكن قد تغلظ كيفاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بامرأة أخرى، وإن كان الكل حراماً.

المقصود من هذا: أن مكة بلد الله الحرام الذي عظمه الله جل وعلا يوم خلق السموات والأرض.

هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله.

<<  <  ج: ص: