للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فرعون وصفة الكبر]

لنقف على أعظم الصفات التي تحلى بها فرعون حتى نبتعد عنها؛ لأن المؤمن يتحلى بطرائق الأخيار، ويأنف وينأى بنفسه عن طرائق الأشرار، والكبر من أعظم المهلكات، وهو نبتة في الصدر، وقد مر معنا أنه يقسم إلى ثلاثة أقسام: كبر على الله، وهذا الصانعون له قليل.

وكبر على الرسل، وهذا الصانعون له أكثر من الأول.

وكبر على الناس، وهذا قليل من يسلم منه.

أما الكبر على الله: فهو عين الكفر، وهذا لم يوجد على مر الدهور إلا في قليل من الأفراد منهم النمرود صاحب إبراهيم: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨]، ومنهم فرعون؛ لأن فرعون تاريخياً بعد النمرود، ففرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وهو قمة الكبر على الله تبارك وتعالى، ولهذا كان جبريل -كما مر معنا في درس التأملات- حانق عليه؛ لأن فرعون نازع الله في كبريائه فلما أدركه الغرق، وأخذ يرى الموت عياناً في البحر -كما جاء في الحديث الصحيح- كان جبريل يأخذ الطين ويضعه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بكلمة يستدر بها رحمة الله جل وعلا فيرحمه الله، فكان من حنق جبريل عليه أنه لا يريد أن يرحمه الله لما سلف من أفعاله وأقواله والتي منها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١]، ومنها قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، ومنها قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:٣٦] إلى غير ذلك مما تجرأ به على ذات الله جل وعلا.

إذاً: أعظم ما يفهم من الدرس: أن هذه النبتة التي في القلب يحاول المسلم قدر الإمكان أن يجعلها مجرد نزعة في النفس لا يكون منها أي صنيع، وكونها موجودة في الإنسان هذا يعني أنها شيء مجبول عليه الناس لكن لا يكون لها أي أثر.

الحالة الثانية: الكبر على الرسل، وقلنا هذا كثير في الأمم.

ثم الكبر على الناس، فقد يوجد في الناس من يتكبر بعضهم على بعض، إما لمال أو لجاه أو لنسب أو لسلطان أو ما إلى ذلك، ولهذا أمر الله جل وعلا نبيه بأن يخفض جناحه للمؤمنين عموماً، وأن يكون أنموذجاً في تواضعه فقال سبحانه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:٣٨]، هذه أعظم ما اتصف به فرعون.

الأمر الثاني: تكذيبه لما يعلم أنه حق، وهذا ناشئ عن كبره، ولهذا قال الله جل وعلا عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، فقد كان يعلم أن موسى على الحق بالآيات البينات البالغات التي أظهرها موسى له لكنه جحدها.

فمن أعظم ما يظلم به المرء نفسه أن يرد الحق وهو يعلم أنه حق، فيرده كبراً يرده أنفة يرده استكباراً، لا يريد أن يخضع لأحد، ولا يريد أن يشعر أن زيداً أو عمراً من الناس أفضل منه فيلحق بركب فرعون، وإن كان لا يصل إلى درجة فرعون ولا يخرجه هذا من الملة، لكن يحرمه من خير كثير ويكون وباله بحسب ذلك الشيء الذي رده.

لقد عامل الله فرعون بجنس المعصية التي تعالى بها، وذلك أنه قال لأهل مصر: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١] فنسب أنهار مصر إليه، وأنها في قبضته يصرفها كيف يشاء، فأغرقه الله في البحر الذي كان يدعي أنه ملك له.

كان من سياسته التفريق بين الناس، قال الله جلا وعلا: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:٤]، أي: فرقاً، يستضعف طائفة منهم ويستحي النساء، ويجعل مجموعة للخدمة، ومجموعه للرفعة، ومجموعه مقربة له.

ففرق بين الناس على تمييز عنصري كان يتخذه، وجعل بني إسرائيل في أدنى المنازل، وسامهم سوء العذاب، فمنَّ الله على بني إسرائيل ببعثة موسى، ثم أهلك فرعون وآله ونجى موسى عليه السلام.

هذا فرعون على وجه العموم اتخذ له وزيراً، والوزير آنذاك ليس كالوزير في هذا العصر، فالوزراء في هذا العصر يعطى كل ذي وجهة وزارة، وسابقاً كان الوزير هو المعاون أو المساعد للرئيس أو للملك أو للسلطان، فكان هامان يؤدي هذا الدور مع فرعون، ولهذا قال الله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:٨] فأضاف الجنود إلى فرعون وهامان؛ لأنهما كانا يملكان القيادة، والإنسان سواء كان ذا سلطان أو غير ذي سلطان لابد له من أشخاص حوله يستشيرهم ويعينونه في الأمر، وهذه سنة لله، وقلما يوجد أحد لا يتخذ رأياً إلا لوحده، وليس معه أحد، خاصة ذوي المناصب والجاه، وذوي المشاغل الكبرى، وكلما كان وزير الإنسان ومن يرافقه ذا عقل وحلم ومحبة لله كانت قراراته أقرب إلى الهدى، والعكس بالعكس، فـ هامان هذا كان وزيراً لفرعون يعينه على طغيانه وعلى جبروته، ولهذا قدح الله فيهما ونكل بهما سوياً.

<<  <  ج: ص:  >  >>