المراد بالكفر والشرك المذكور عن بعض المعاصي التي ليست كفراً ولا شركاً
قال: [وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه].
إذاً: ليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) أي: أنهم كفروا وارتدوا ككفر أبي جهل؛ فإن هذا مجمع على بطلانه.
[إنما وجوهها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون].
ولا يقال: إنها كفر النعمة باطراد؛ لأنه قد لا يكون المقام مناسباً، وإنما الغالب على مناسبتها: أن هذه من خصال الكفار، وهذا أضبط من قول: إنها من خصال الكفر.
فهي من سننهم وأخلاقهم وأفعالهم، أي أنها ليس من سنن المؤمنين، ولا من هدي المرسلين، ولا من طرائق المسلمين، وإنما هي من أفعال الكفار وسننهم، والواجب على المسلمين الهجر لهذا الجنس: وهو ما كان من سنن الكفار وطرائقهم المباينة لسنن المؤمنين، فإن هذا هو تحقيق الولاء والبراء.
وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأفعال كفراً تدل على أن هذه الأفعال من الكبائر المفارقة لتمام السنة ووجوبها.
[وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحواً مما وجدنا في النوعين الأولين.
فمن الشاهد على الشرك في التنزيل قول الله تبارك وتعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس إياهما: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:١٨٩] إلى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:١٩٠]
وإنما هو في التأويل أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث.
فهل لأحدٍ يعرف الله ودينه أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة والمكان من الله، فقد سمي فعلهما شركاً، وليس هو الشرك بالله.
وأما الذي في السنة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر) فقد فسر لك بقوله: (الأصغر) أن هاهنا شركاً سوى الذي يكون به صاحبه مشركاً بالله، ومنه قول عبد الله: (الربا بضعة وستون باباً، والشرك مثل ذلك) فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعاً كثيرة تسمى بهذا الاسم وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إله غيره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه إلا أنها أخلاق المشركين وتسميتهم وسننهم وألفاظهم وأحكامهم ونحو ذلك من أمورهم.
وأما الفرقان الشاهد عليه في التنزيل فقول الله جلّ وعز: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] وقال ابن عباس: (ليس بكفرٍ ينقل عن الملة).
وقال عطاء بن أبي رباح: (كفر دون كفر).
فقد تبين لنا أنه كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باقٍ على حاله وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاف الكفار وسنتهم، على ما أعلمتك من الشرك سواء؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:٥٠] تأويله عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون].
هنا مسألتان في قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤].