للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بماذا يعتبر الرجل مبتدعاً؟

من فقهه رحمه الله أنه جعل مرجئة الفقهاء وعلى رأسهم حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله في دائرة أهل السنة والجماعة؛ فإن هذا هو الصحيح، وعلى هذا لا يجوز أن يُعد أمثال هؤلاء في أهل البدعة.

وهذا يدل على قاعدة؛ وهي: أن من وقع في شيء من الأقوال البدعية وعامة أمرهِ على السنة والجماعة فإنه لا يسمى مبتدعاً عند السلف، وإنما المبتدع -وهو اسم فاعل- من غلب عليه حالٌ من البدعة:

إما أن يكون هذا الحال يغلب على دلائله -أي: في المنهج- كمن ينتحل علم الكلام، ويجعله هو المعتبر في تقرير مسائل أصول الدين.

وإما أن يغلب على حاله كثرة الاستعمال لأقوال أهل البدع، كأن يوافق أهل البدع في القدر والأسماء والأحكام والإيمان ومسائل أخرى.

وإما أن يغلب عليه بدعة ولو واحدة لكنها مغلظة، كمن قال في مسألة الصفات قولاً من التعطيل واستقر عليه، فهذا وإن استقر أمره في الإيمان والأسماء والأحكام والقدر على مذهب السلف إلا أنه يسمى مبتدعاً.

وإذا اعتبر هذا التحقيق فإننا لا نجد في أعيان الناس من استقر على بدعة مغلظة في أصل وحقق مذهب السلف في أصولٍ أخرى، فإن الباحث عمن يقول بتمام قول المعتزلة -مثلاً- في تعطيل صفات الرب سبحانه وتعالى، والذي قال عنه السلف: إنها أقوالٌ كفر، كالقول بخلق القرآن، وإنكار العلو وأمثال ذلك لا يجد واحداً من الأعيان يستقر على تحقيق هذه البدعة المغلظة، ومع ذلك يحقق السنة وقول السلف في مسائل الأصول الأخرى.

وإنما الذي يعرض أن بعض الأعيان من المنتسبين إلى السنة والجماعة قد يغلطون في شيء من مسائل الصفات، أو القدر أو الإيمان وإن كان أصل بابها عندهم على طريقة السلف.

وقد عرض هذا لإمام الأئمة ابن خزيمة -وهو من كبار أعيان أصحاب الشافعي رحمه الله - فقد قال في مسألة حديث الصورة قولاً لم يُتابع عليه، وقد قال الإمام أحمد عن هذا القول لما سأل عنه: "هذا قول الجهمية"؛ ومع ذلك لا يجوز أن ينسب ابن خزيمة إلى الجهمية، ولا أن يخرج عن السنة والجماعة بوجهٍ ما، وإن كان قوله غلطاً.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن الإمام أحمد لما تكلم الجهمية باللفظ بالقرآن قال قوله المشهور في رواية أبي طالب: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوقٍ فهو مبتدع".

ومع ذلك ثبت القول بمسألة اللفظ على مرادٍ صحيح عن جملة من أئمة السلف؛ فإن محمد بن يحيى الذُهلي كان يقول: "إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً" ويشنع على من يقول: إنه مخلوق.

وعن هذا هجر البخاري، وحصل بينه وبين الإمام البخاري ما حصل في المسألة المعروفة.

وكان مراد الذهلي من قولته تلك: أن القرآن ليس مخلوقاً.

فمراد محمد بن يحيى الذُهلي من هذا اللفظ مرادٌ صحيح، وإن كان الجمهورُ من أئمة السنة كـ أحمد وغيره يرون أنه لفظ محدث.

وقد نقل عن الإمام البخاري وثبت عن غيره ثبوتاً جازماً أنهم إذا سُئلوا عن هذه المسألة أجابوا بقولهم: اللفظ بالقرآن مخلوق.

فـ البخاري كان مراده صحيحاً، فإنه لما قال: "اللفظ بالقرآن مخلوق" أراد أفعال العباد؛ ومن المعلوم أن الإمام البخاري كان على عناية بمسألة خلق أفعال العباد، وعن هذا صنّف كتابه "خلق أفعال العباد" في تقرير هذا والرد على القدرية.

وهنا فرقٌ لطيفٌ لطالب العلم، وهو أن ثمة فرقاً بين من قال قولاً جواباً وبين من قاله ابتداءً، فـ البخاري قاله جواباً وكذلك الذُهلي؛ لأن هذه المسألة ابتلي الناس بالسؤال عنها، وقد سئل عنها الإمام أحمد، فأجاب بقوله: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع".

وأما أن أحداً من أعيان أئمة السلف ابتدأ ذكر المسألة فلا.

فالقصد: أنه لا يجوز أن يقال عن البخاري أو الذهلي: إنه مبتدعٌ أو جهمي؛ وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وأحمد وأمثاله وإن قالوا هذا القول إلا أنه لا يراد بذلك أن الواحد من الأئمة إذا أطلق مثل هذا القول صح أن يسمى كذلك، فضلاً عن أن يعطى حكم الجهمية أو أهل البدع".

إذاً: ثمة أقوال في باب الصفات أو القدر أو الإيمان هي أقوالٌ غلط، ويمكن أن يقال: هي أقوالٌ بدعة، ومع ذلك لا يضاف أصحابها إلى أهل البدع.

وبعبارة أخرى: لا يلزم من وقوع الرجل من أهل العلم في بدعةٍ من البدع اللفظية- أي: بدع الأقوال- أن يسمى مبتدعاً، فإن هذا لو تُكلِّف لزاد الشر والفتنة، ومن غلب حاله على السنة والجماعة اعتبر بها واعتبر بإضافته إليها، ومع هذا يقال: إن هذا القول الذي قاله بدعةٌ مخالفة.

وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله أن أبا عبيد رحمه الله كان يذهب إلى أن قول مرجئة الفقهاء بدعةً؛ ولهذا نقل عن فقهاء الكوفة أكثر من نقله عن غيرهم؛ ليبيّن مفارقة حماد بن أبي سليمان للكوفيين، وأن هذا ليس إجماعاً عند أهل الكوفة.

والمقصود بهذا أن عدم إخراج المصنف لـ حماد بن أبي سليمان وأتباعه من دائرة السنة والجماعة لا يلزم منه عدم الحكم على قولهم بأنه بدعة، وتسميته بدعة لا يلزم منه أن يسمى من يقول به مبتدعاً، وهذا كالقول أنه لا يلزم من قول الرجل ما هو كفرٌ أن يسمى كافراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>