[عمل القلب]
المحل الثالث: عمل القلب كالخوف، والرجاء، والاستعانة
إلى غير ذلك.
فإن قيل: فما الفرق بين قول القلب -الذي هو تصديقه- وبين عمل القلب؟
قيل: من هدي الصحابة رضي الله عنهم أن ثمة أموراً كثيرة يُعلم الفرق بينها ضرورة، تقوم في نفوس العقلاء، وإن كان كثيراً من العقلاء قد لا يحسنون ضبط الحد من جهة الكلام في التفريق بينها، أي: هناك أمورٌ كثيرة مستقرة من حيث الفرق أو مستقرة من حيث المعنى، وإذا طلب من الإنسان التعبير عن هذا الفرق قد لا يحسنه، ولربما كان ذكره للفرق مدعاة للشغب عليه من المخالفين، وإلزامه بشيءٍ من اللوازم.
إذاً: الفرق بين التصديق وبين عمل القلب مستقر عند عامة المسلمين وسوادهم؛ فإنهم يفرقون بين تصديقاتهم وبين ما يقوم في قلوبهم من التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومحبته، والخوف منه، والرجاء
إلى غير ذلك، فهذا فرقٌ من حيث المعنى مستقر.
وإنما ينبه هذا التنبيه؛ لأن الحد للأشياء -الذي يسمى التعريف، واسمه في المنطق الحد- والمعاني أمرٌ حادث في العلم، ينبغي لطالب العلم ألا يلتفت إليه كثيراً؛ لأن هذا الحد يقع عنه في كثير من الأحوال جملة من المفاسد، من أخصها:
١ - التضييق للمعاني.
٢ - استباق المعاني.
ما معنى استباق المعاني؟
مثلاً: مسألة السنة والبدعة، هي قبل أن تكون حداً وتعريفاً هي استقراءٌ في فقه الشرع.
فإذا نقدنا مسألة الحد، وقلنا: إن الذين بالغوا في تقريرها هم علماء الكلام، فقيل: فما البديل عنها؟
قلنا: الذي كان عليه السلف -الصحابة والأئمة من بعدهم- هو الاستقراء؛ فيكون تحقيق المعاني باستقراء جميع مواردها.
مثلاً: إذا قيل: ما هي البدعة؟
قيل: لقد عرفها الشاطبي -مثلاً- في الاعتصام بأنها: "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه".
وهذا الحد ليس بالضرورة أن يقال: إنه غلط، لكن نقول: أخذ مثل هذه المسائل الكبرى بحدٍ مختصر يقع لفظه في سطر، ويقع شرحه في صفحة أو صفحتين يظن الآخذ له أنه قد فقه وفهم الفرق بين مدلول السنة ومدلول البدعة، ومتى يسمى القول أو الفعل سنة، ومتى يسمى بدعة، ومتى يكون القائل أو الفاعل على السنة، ومتى يكون على البدعة، ومثل هذه الاستطالات عن طريق الحدود ..
أمر غير متحقق.
ومن يراجع في كتب المنطق وعلم الكلام يرى أنهم يذكرون الحد ويذكرون الرسم، وقد قال الإمام ابن تيمية: "إن المحققين من النظار يرون تأخر الحد عن جمهور الأشياء، وإنما يستعملُ معها الرسم".
ما الفرق بين الحد والرسم؟
الحد: هو الضبط للماهية نفسها.
أما الرسم: فهو التمييز للماهية عن غيرها.
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا هو التحقيق" فإن الممكن في جمهور المعاني هو التمييز لها عن غيرها، وأما تعيين ماهيتها فهذا في الغالب أنه يتأخر، ويقع عنه ضيقٌ ..
وما إلى ذلك.
إذاً يقال: الفرق بين التصديق وعمل القلب هو فرقٌ مستقر؛ فإن أحسن المسلم التفصيل له بلسانه وإلا فكما قال الإمام ابن تيمية: "وكثيرٌ من المسلمين، يقوم في نفوسهم من العلوم الضرورية في باب الإيمان بالله ورسوله والنبوة والشريعة وغير ذلك ما لا يستطيعون التعبير عنه .. ".
فهذه مسألة مما ينبغي أن يتفطن له؛ فإن كثيراً من المسلمين يتأخر عن الإبانة عن فرق مستقر.
ولا يفهم من هذا أننا نقصد إلى أن نقول: إن تعريف البدعة أو استعماله غلط.
لكن لا ينبغي أن يستطال فيه وأن يعظم شأنهُ.
فإذا ذكر الفرق بين التصديق وعمل القلب قيل التصديق: هو التصورات التي يقرُ القلب بثبوتها، فهو على باب الإثبات والنفي، ولهذا كان ما يقابل التصديق هو التكذيب.
وأما عمل القلب فهو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له كالخوف والمحبة والرجاء.
ومعنى هذا أن التصديق -وهذا من معاني أهل السنة في تقريرهم للإيمان- يوجبُ بذاته عمل القلب، وهذا هو الفرق بين التصديق الشرعي الإيماني، وبين التصديق المطلق المرادف للمعرفة؛ فإن المعرفة لا تستلزم عمل القلب؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦] وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] فمعرفة الكفار هي علم محض، وأما التصديق الشرعي الذي يذكر في الإيمان فهو ما استلزم العمل.
فإذا كان التصديق لا يستلزمُ عمل القلب فإنه يتأخر عن كونه تصديقاً على التمام الشرعي.