تسمية الشارع لبعض الأعمال كفراً أو نفاقاً مع عدم كفر فاعلها
[وهكذا قوله: (ثلاثةٌ من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والأنواء) ومثله الحديث الذي يروى عن جرير وأبي البختري الطائي: (ثلاثةٌ من سنة الجاهلية: النياحة، وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم) وكذلك الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وقول عبد الله: "الغناء ينبت النفاق في القلب"].
تحصّل من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بعض الأعمال كفراً أو نفاقاً، كقوله: (آية المنافق ثلاث) في حديث أبي هريرة في الصحيحين، وفي وجه عند مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، وفي حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه: (أربعٌ من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً).
وليس مراده صلى الله عليه وسلم بالمنافق هنا المنافق النفاق الأكبر الذي قال الله فيه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:١٤٥].
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) مشكل؛ لأن هذا اللفظ كأنه إخراج له عن الإسلام، أو حكمٌ عليه بالنفاق.
قيل: لكن الواقع ليس كذلك؛ فإن الأسماء قد تتوارد على مسمىً واحد ويكون المقامُ مختلفاً؛ ولهذا صاحب الكبيرة نسميه مؤمناً في مقام، ونسميه مسلماً في مقام، ونسميه فاسقاً في مقام آخر.
فإنه إذا ما أريد العتاق أو التوارث -مثلاً- قيل عن مرتكب الكبيرة: إنه مؤمن، على قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢] فإنه لو أعتق فاسقاً صح بالإجماع، وهو معنى قول النبي: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة).
وإذا أريد بيان ما هو عليه من الكبيرة، والمفارقة للسنة والشريعة، وبيان الطعن عليه لإسقاط عدالته أو لذمه أو لذم فعله أو أمثال ذلك سمي فاسقاً.
وإذا اعتبر الأصل فيه سمي مسلماً.
وإذا تبين أن هذه الأسماء الثلاثة تستعمل في حق صاحب الكبيرة؛ فإنه يقال بعد ذلك: الأصل فيه اسم الإسلام.
وأما من يقول: الأصل فيه اسم الفسق، فهذا خطأ؛ فإن الصحابة ما كانوا يلتزمون تسمية كل من أتى جرماً أو كبيرةً باسم الفسق، حتى لا يذكر بالإسلام في شيء.
لكنه يسمى فاسقاً إذا اقتضى الأمر ذلك؛ وذلك إما بياناً لعدالته أو ذماً له أو لفعله أو ما إلى ذلك.
وكذلك يسمى مؤمناً إذا اقتضى الأمر ذلك أو دخل في جملة الخطاب، كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٠٤] فإنه يدخل في ذلك كل مسلم ولو كان فاسقاً.