للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم تسمية بعض الكبائر كفراً أو نفاقاً قياساً على تسمية الشارع لبعض المعاصي كفراً أو نفاقاً

هنا مسألة، وهي: أن الشارع سمى بعض الأعمال نفاقاً أو كفراً، فهل يصح أن تسمى بعض الكبائر كفراً أو نفاقاً من باب الطرد للتسمية، أم أنه يجب الاقتصار على تسمية الشارع؟

مثلاً: لو أن قائلاً قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما عبدٍ أبق من مواليه فقد كفر) وهنا كبائر مثل إباق العبد أو أشد منه، فكما سمى الشارع إباق العبد كفراً ساغ لنا أن نسمي ما كان أشد منه مخالفة لله ولرسوله كفراً؟

قيل: هذا لا يصح؛ لأن الشارع إنما سمى ما سماه من الأقوال أو الأعمال كفراً أو نفاقاً مع عدم خروج صاحبها من الملة؛ لأنه اعتبر في ذلك القدر والمناسبة.

ويظهر اعتبار الشارع للقدر - أي: لقدر الذنب- بعدم تسميته صغيرة من الصغائر كفراً أو نفاقاً، بل كل ما سماه كفراً أو نفاقاً هو من الكبائر.

أما وجه اعتبار المناسبة فالمقصود مناسبة العمل للاسم الذي سمي به، ولهذا نرى المناسبة واضحة في تسمية الإباق كفراً؛ وذلك لأن على العبد لأهله نعمة، وهو ملك لهم

إلى غير ذلك.

إذاً الشارع إنما سمى ما سماه اعتباراً للقدر واعتباراً للمناسبة، وفي هذا التقرير منعٌ للقياس والطرد كما يستعمله ابن القيم رحمه الله؛ فإنه ليس بصحيح.

ومما يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم التفصيل في حديث ابن مسعود في الصحيح فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

ولهذا خالف العامة من السلف الحسن البصري فيما روي عنه أنه يسمي الفاسق منافقاً، وإن أراد بذلك أنه منافق النفاق الأصغر.

وبهذا يتبين أن الصواب هو الاقتصار على تسمية الشارع، فلا يسمى عملٌ أو قولٌ أنه كفرٌ أو نفاق إلا إذا كان الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم سماه كذلك، وأما القياس فليس بصحيح؛ لأن مبنى ذلك على القدر والمناسبة، والعلم بالمناسبة هو من خصائص صاحب الشريعة، فهو الذي يضبط المناسبات.

وأما الناس فإنهم يسمون الأعمال بمطلقها، وإذا انغلق هل يسمى نفاقاً أو يسمى كفراً أو ما إلى ذلك؟

قيل: لقد أورد الشارع أسماء مطلقة في الكبائر كاسم المعصية، والفسق، فيصح أن تسمى أي كبيرة معصية أو فسقاً، أما تسميتها كفراً ونفاقاً فهذا مختص بتسمية الشارع.

[ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب أن راكبها يكون جاهلاً ولا كافراً ولا منافقاً وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده، ومؤدٍ لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار محرمة منهي عنها في الكتاب وفي السنة، ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم، ولقد روي في بعض الحديث: (إن السواد خضاب الكفار) فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب؟! وكذلك حديثه في المرأة إذا استعطرت ثم مرت بقوم يوجد ريحها (أنها زانية) فهل يكون هذا على الزنا الذي تجب فيه الحدود؟ ومثله قوله: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان).

أفيتهم عليه أنه أراد الشيطانين الذين هم أولاد إبليس؟! إنما هذا كله على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن.

وكذلك كل ما كان فيه ذكر كفر أو شرك لأهل القبلة فهو عندنا على هذا، ولا يجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبه للردة إلا بكلمة الكفر خاصة دون غيرها، وبذلك جاءت الآثار مفسرة.

قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن جعفر بن برقان عن ابن أبي نشبة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإسلام: الكف عن من قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار كلها).

قال أبو عبيد: حدثنا عباد بن عباد عن الصلت بن دينار عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت على ابن مسعود وهو في بيت مال الكوفة فسمعته يقول: (لا يبلغ بعبد كفراً ولا شركاً حتى يذبح لغير الله أو يصلي لغير الله).

قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان قال: (جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر، فسأله رجل: هل كنتم تسمون أحداً من أهل القبلة كافراً؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركاً؟ قال: لا)].

<<  <  ج: ص:  >  >>