[حكم ترك الحكم بما أنزل الله]
المسألة الأولى: هل ترك الحكم بما أنزل الله كفر مخرج من الملة أم ليس مخرجاً من الملة؟
هذه المسألة -كما هو معلوم- عند المتأخرين -ولاسيما المعاصرين- مسألة خفض ورفع، فمنهم من يقول: إن ترك الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ بالإجماع، ويستدلون على ذلك ببعض كلام إسحاق بن إبراهيم رحمه الله في مثل قوله: "أجمع أهل العلم أن من دفع شيئاً أنزله الله على نبيه أنه كفر".
وهذا كلام لا جدال فيه، وليس هو من المشكلات، بل هو من بدهيات الإسلام، فإن قوله: " من دفع شيئاً".
بمعنى: أباه ورده وطعن فيه أو كذبه، وهذا لا شك أنه كافر؛ ولهذا قال إسحاق رحمه الله: "من دفع شيئاً".
أي: ولو كان شيئاً واحداً.
ومعلوم أن ترك الحكم في مسألةٍ واحدة لم يذهب أحد من السلف ولا الخلف إلى أنه كفر يخرج من الملة.
فتفسير كلام إسحاق لابد أن يكون على وجهه، وهو أن مراده بالدفع هنا الطعن وما إلى ذلك من أوجه الكفر الأكبر كالتكذيب ونحوه، وليس مجرد الترك؛ لأن آحاد الترك بالإجماع ليس كفراً.
بقي إجمالٌ في هذه المسألة وليس تفصيلاً: هل الحكم بغير ما أنزل الله يعد كفراً مخرجاً من الملة، أم أنه كفر دون كفر؟
يقال: هذا المعنى -وهو الحكم بغير ما أنزل الله- معنى له إطلاقٌ وله تقييد، وفيه قدرٌ يخرج من الملة، وقدرٌ لا يخرج من الملة.
والنتيجة من هذا: أن الإطلاق في هذه المسألة ليس فاضلاً، وإنما كان السلف يطلقون على مراداتهم من المعاني، بمعنى: أن ثمة صوراً من الحكم بغير ما أنزل الله يُعلم ضرورةً أنها كفر مخرجٌ من الملة، وثمة صور تسمى حكماً بغير ما أنزل الله، ومع ذلك نعلم إجماع السلف على أنها ليست من الكفر المخرج من الملة كبعض الآحاد وأمثال ذلك.
وهنا صور قد تكون من باب التردد والمشتبه الذي يتردد المجتهدون في إلحاقه: هل يسمى كفراً مخرجاً من الملة أو ليس كذلك؟
ولذلك يوجد في تفسير السلف رحمهم الله لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] وما شابهه من الآيات في سورة المائدة يوجد فيه بعض التعدد، وهذا من باب التنوع؛ فإن من السلف من حمل ذلك على الكفر الأكبر وعلقوه بالاستحلال وأمثال ذلك ..
وهذا من باب أن ثمة صوراً من الحكم بغير ما أنزل الله تعد من الكفر المخرج من الملة، وأن الاستحلال أحد هذه الصور، وثمة صور أخرى تعرف بالدلائل الشرعية.
لكن ثمة صور من الحكم بغير ما أنزل الله تسمى حكماً بغير ما أنزل الله هي بإجماع السلف وبدلائل الشريعة لا تعد من الكفر المخرج من الملة.
وثمة صور -أيضاً- هي محل تردد واجتهاد، وقد يقع لها قدرٌ من الاشتباه، وهذا بحسب مقامات العلماء.
وعليه: فالقصد إلى التزام حرفٍ واحد، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله مخرج من الملة، وهذه طريقة السلف، ثم يأتي مقابل ذلك من يقرر من السلفيين الفضلاء أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس مخرجاً من الملة عند السلف، يؤدي إلى مثل هذا التعارض ..
فإذا قيل: إن من السلف من حمل تفسير الآية على المخرج من الملة، ومنهم من حمله على غير المخرج من الملة.
قيل: هذا بحسب فهم السلف للمراد من السياق، فمنهم من فهمه على مراد لا يخرج من الملة فسر الآية به، ومنهم من حمله على مراد يخرج من الملة ففسر الآية به.
ولو فرُض جدلاً أن السياق المراد في كلام الله على أحد الصورتين، فإن هذا لا ينفي وجود الصورة الأخرى.
أي: لو فرض أن السياق في ذكر الكفر الأكبر، قيل: لا شك أن ثمة حكماً بغير ما أنزل الله يسمى كفراً أكبر، فإن اليهود والنصارى كفار، وهم لا يحكمون بغير ما أنزل الله، ويسمى فعل اليهود والنصارى حكماً بغير ما أنزل الله مخرجاً لهم من ديانة المسلمين وديانة المرسلين، وهو كفرٌ بالكتاب
إلى غير ذلك.
وقد يراد بالآية ما هو من أخلاق المشركين أو ما إلى ذلك، فهذا هو الكفر الذي دون كفر، ولهذا تعدد تفسير السلف.
وعليه إذا قيل: هل تفسير السلف لهذه الآية من باب خلاف التضاد؟
قد يقال: ظاهره أنه من باب خلاف التضاد؛ لأن منهم من يقول: كفرٌ دون كفر، ومنهم من يقول: كفرٌ أكبر -وهو الكفر بالله-.
لكن الصواب: أنه خلاف تنوع؛ لأن من يقول: إنه كفرٌ دون كفر أراد به صوراً لا ينازع الآخر أنها ليست من الكفر بالله، ومن قال: إنه كفرٌ بالله في من استحل أو كذّب أو أنكر أو عظمَّ شرع غير الله على شرع الله، أو نحو ذلك من الصور، فهنا لا يمكن أن يقال: إن ابن عباس وأصحابه الذين قالوا: كفرٌ دون كفر ينازعون في أن هذا كفراً أكبر، ويلتزمون فيه أنه كفرٌ دون كفر.
إذاً: إنما صار وجه الخلاف كالتضاد؛ لأن المرادات مختلفة، وهذا يبين لك أن المسألة عند السلف -وبحسب أدلة الشريعة- لها صور، بعضها كفر أكبر كحكم اليهود والنصارى، أو غيرهم من أجناس الكفار الذين يكذبون شرع الله، أو يعظمون غيره عليه، أو يستحلون، أو ما إلى ذلك من الصور.
وبعضها -كآحاد المسائل- ليس من الكفر بإجماع أهل العلم، وهذا كالقاضي أو الحاكم إذا حكم في مسألة واحدة، كأن أتاه قريب له سارقٌ فما قطع يده، وقال: يكفي فيه التعزير ..
فإن هذا حكم بغير ما أنزل الله لكنه بالإجماع لا يكفر، إلا إذا كان مكذباً للنص، وهذه مسألةٌ أخرى.
وهناك صور -كما تقدم- محل تردد، وهذه الصور التي هي محل تردد أهم ما يقال من الواجب فيها: أنه لا ينبغي أن يخوض فيها بالتقرير إلا أهل العلم والبصيرة العارفون بالسنن والشرائع وهدي السلف والمصالح وما إلى ذلك.