للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقَّق التوكل على الله؟ وفيه قولان مشهوران، وظاهر كلام أحمد أنَّ التوكلَ لمن قوي عليه أفضلُ، لِمَا صحَّ عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يَدخُلُ مِنْ أُمَّتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب" ثم قال: "هم الذين لا يتطيَّرون ولا يَسترقون ولا يَكتوون وعلى ربِّهم يتوكَّلون" (١).

ومن رجح التداوي قال: إنَّهُ حال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يُداوم عليه، وهو لا يفعلُ إلَّا الأفضلَ، وحمل الحديثَ على الرُّقى المكروهة التي يُخشى منها الشركُ بدليل أنه قرنها بالكي والطِّيرة وكلاهما مكروه (٢).

ومنها ما يَخرِقُهُ لِقليلٍ من العامة، كحصول الرِّزق لمن ترك السعي في طلبه، فمن رزقه الله صدقَ يقين وتوكل، وعَلِمَ من الله أنه يَخرِقُ له العوائد، ولا يُحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه، جاز له تركُ الأسباب، ولم يُنكر عليه ذلك، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدلُّ على ذلك، ويدلُّ على


(١) رواه مسلم (٢١٨) من حديث عمران بن حصين.
(٢) قال الإمام ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص ٢٨٧ - ٢٨٨: إذا ثبت أن التداوي مباح بالإجماع، مندوب إليه عند بعض العلماء، فلا يلتفت إلى قوم قد رأوا أن التداوي خارج من التوكل، لأن الإِجماع على أنه لا يخرج من التوكل، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تداوى وأمر بالتداوي، ولم يخرج بذلك من التوكل، ولا أخرج من أمره أن يتداوى من التوكل.
وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" ٤/ ١٥: وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطِّلُها أن تركها أقوى من التوكل، فإنَّ تركها عجزًا يُنافي التوكل الذي حقيقتُه اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابُدَّ مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>