والثالث: مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض. والرابع: مذهبُ أهل السنة والجماعة، وهم بينَ بينَ، فقالوا: إنَّ الأعمال أيضًا لا بُدّ منها، لكن تاركها مُفسَّقٌ، لا مُكفَّر، فلم يُشَدِّدوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يُهَوِّنوا أمرها كالمرجئة. ثم هؤلاء - أي أهل السنة والجماعة - افترقوا فرقتين، فأكثر المحدثين إلى أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا الأعظم - رحمه الله تعالى - وأكثرُ الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غيرُ داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم جميعًا على أن فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلَّا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيث ينعدِمُ الكل بانعدامها، بل يبقى الإيمان معَ انتفائها. وإمامنا أبو حنيفة وإن لم يجعل الأعمال جزءًا، لكنه اهتم بها، وحرَّض عليها، وجعلها أسبابًا ساريةً في نماء الإيمان، فلم يهدرها هدرَ المرجئة، إلَّا أن تعبير المحدثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم - رحمه الله تعالى - فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال: رُمي الحنفية بالإرجاء، وهذا كما ترى جوز علينا، فالله المستعان. ولو كان الاشتراك مع المرجئة بوجهٍ من الوجوه التعبيرية كافيًا لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبةُ الاعتزال إليهم، أي: إلى المحدثين، فإنهم، أي المعتزلة، قائلون بجزئية الأعمال أيضًا كالمحدثين، ولكن حاشاهم من الاعتزال، وعفا الله عمّن تعصّب ونسب إلينا الإرجاء، فإنَّ الدين كلَّه نصح، لا مراماةٌ ومنابزة بالألقاب! ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم" انتهى.