واستحضارِ قُربِهِ مِنْ عبده، حتَّى كأنَّ العبدَ يراه، فإنَّه قد يشقُّ ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطَّلعُ على سرِّه وعلانيته وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمره، فإذا حقَّق هذا المقامَ، سهُل عليه الانتقالُ إلى المقام الثاني، وهو دوامُ التَّحديق بالبصيرة إلى قُرب اللهِ من عبدهِ ومعيَّته، حتَّى كأنَّه يراه.
وقيل: بل هو إشارةٌ إلى أن مَنْ شقَّ عليه أن يعبُد الله كأنَّه يراه، فليعْبُدِ الله على أن الله يراه ويطَّلع عليه، فليستحي مِنْ نظره إليه، كما قال بعضُ العارفين: اتَّق الله أنْ يكونَ أهونَ النَّاظرين إليك.
وقال بعضُهم: خفِ الله على قدر قُدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك.
قالت بعضُ العارفات من السلف: مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدة، فهو عارفٌ، ومن عمل على مشاهدة الله إيَّاه، فهو مخلص. فأشارت إلى المقامين اللَّذين تقدَّم ذكرهُما:
أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مُشاهدةِ الله إياه، واطّلاعه عليه، وقُربه منه، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عمله، وعَمِلَ عليه، فهو مخلصٌ لله، لأنَّ استحضارَهُ ذلك في عمله يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ الله وإرادته بالعمل.
والثاني: مقام المشاهدة، وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته لله بقلبه، وهو أن يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ، وتنفُذ البصيرةُ في العِرفان، حتَّى يصيرَ الغيبُ كالعيانِ.
وهذا هو حقيقةُ مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريلَ عليه السلام، ويتفاوت أهلُ هذا المقامَ فيه بحسب قوَّة نفوذ البصائرِ.