للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديثَ النعمان بنِ بشير، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَثَلُ المؤمنِينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عُضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهر" خرجاه في "الصحيحين" (١)، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يسوؤه ما يسوءُ أخاه المؤمن، ويُحزِنُه ما يُحزنه.

وحديثُ أنس الذي نتكلَّمُ الآن فيه يدلُّ على أنَّ المؤمن يَسُرُّهُ ما يَسرُّ أخاه المؤمن، ويُريد لأخيه المؤمن ما يُريده لنفسه من الخير، وهذا كُلُّه إنَّما يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ، فإنَّ الحسدَ يقتضي أن يكره الحاسدُ أن يَفوقَه أحدٌ في خير، أو يُساويَه فيه؛ لأنَّه يُحبُّ أن يمتازَ على الناسِ بفضائله، وينفردَ بها عنهم، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك، وهو أن يَشْرَكَه المؤمنون كُلُّهم فيَما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.

وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يُريد العلوَّ في الأرض ولا الفساد، فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: ٨٣]. وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: إنَّ الرَّجُلَ ليُعْجبُهُ مِن شِراكِ نعله أن يكونَ أجودَ من شراكِ صاحبه فَيَدْخُلُ في قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (٢). وكذا رُوي عن الفَضيل بنِ عياض في هذه الآية، قال: لا يُحِبُّ أن يكونَ نعلُه أجودَ من نعل غيره، ولا شِراكُهُ أجودَ مِنْ شراك غيره.

وقد قيل: إن هذا محمولٌ على أنَّه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرَّدَ التجمل (٣)، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرين في هذه الآية: العلوُّ في الأرض:


(١) تقدم تخريجه.
(٢) رواه الطبري ٢٠/ ١٢٢، وفي إسناده أشعث السمان، وهو متروك.
(٣) وإلى ذلك ذهب الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٦/ ٢٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>