للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحقِّ خشيةَ الذَّمِّ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أن لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله. وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.

وقد روي عن السلف عبارات أخرُ في تفسير الزُّهد في الدُّنيا، وكلها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم، كقول الحسن: الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هو أفضل مني، وهذا يرجع إلى أنَّ الزَّاهد حقيقةً هو الزَّاهدُ في مدح نفسه وتعظيمها، ولهذا يقال: الزهد في الرِّياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة (١)، فمن أخرج مِنْ قلبه حبَّ الرِّياسة في الدُّنيا، والتَّرفُّع فيها على الناس، فهو الزَّاهد حقًا، وهذا هو الذي يستوي عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها (٢)، قال ابن السماك: هذا هو الزاهد المبرز في زهده.

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصُها، وهو مثلُ استواءِ المصيبة وعدمها كما سبق.

وسئل بعضُهم - أظنُّه الإمام أحمد - عمَّن معه مالٌ: هل يكون زاهدًا؟ قال: إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه، أو كما قال.

وسئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يغلب الحرامُ صبرَه، ولم يشغل الحلالُ شكره (٣)، وهذا قريبٌ ممَّا قبله، فإنَّ معناه أنَّ الزَّاهد في الدُّنيا إذا قدر


(١) روى نحو هذا أبو نعيم في "الحلية" ٨/ ٢٣٨ عن يوسف بن أسباط.
(٢) الأثر في "الحلية" ٨/ ١٤٠.
(٣) رواه أبو نعيم في "الحلية" ٧/ ٢٨٧ بلفظ: "من لم يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره".

<<  <  ج: ص:  >  >>