للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأما الأعمال البدنية، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين: أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة، وكدُّها بالعبادة. والثاني: اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره.

فالأوَّلُ قد رُفِعَ عن أهل الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة.

وأما المقصود الثاني، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأُنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عيانًا، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته، وسماع كلامه، ولا سيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا، كالَجُمَع والأعياد، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشيًا في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنة يرون ربَّهم (١) حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم له، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآنِ لا ينقطعُ عنهم أبدًا، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ. قال ابنُ عيينة: لا إله إلَّا الله لأهلِ الجنَّة، كالماء البارد لأهل الدُّنيا، فأين لذَّةُ الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة.

فتبيَّن بهذا أن قوله: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنةِ فلهُ خَيرٌ مِنهَا} [النمل: ٨٩] على ظاهره، فإنَّ ثواب كلمة التَّوحيد في الدُّنيا أن يصِلَ صاحبُها إلى قولها في الجَنَّةِ على الوجه الذي يختصُّ به أهل الجنَّةِ.


(١) حديث الرؤية روي عن غير واحد من الصحابة، فرواه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري (٧٤٣٩)، ومسلم (١٨٣)، ورواه من حديث جرير بن عبد الله البجلي البخاري (٥٥٤)، ومسلم (٦٣٣)، وأبو داود (٤٧٢٩)، والترمذي (٢٥٥٤)، وأحمد ٤/ ٣٦٠، ومن حديث أبي هريرة البخاري (٧٤٣٧)، ومسلم (١٨٢)، وأحمد ٢/ ٢٧٥، وأبو داود (٤٧٣٠)، والترمذي (٢٥٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>