للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٨٤]، شقَّ ذلك على المسلمين، وظنُّوا دُخولَ هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦] (١)، فبيَّنت أنَّ ما لا طاقةَ لهم به، فهو غيرُ مؤاخذٍ به، ولا مكَلّف به، وقد سمى ابنُ عباس وغيرُه ذلك نسخًا، ومرادُهم أنَّ هذه الآية أزالتِ الإِيهامَ الواقعَ في النُّفوسِ من الآية الأولى، وبيَّنت أنَّ المرادَ بالآية الأُولى العزائم المصمَّمُ عليها، ومثل هذا كان السَّلفُ يسمُّونَه نسخًا.

القسم الثاني: العزائم المصممة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنُها صاحبُها، فهذا أيضًا نوعان:

أحدهما: ما كان عملًا مستقَّلًا بنفسه من أعمالِ القلوب، كالشَّكِّ في الوحدانية، أو النبوَّة، أو البعث، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ، ويصيرُ بذلك كافرًا ومنافقًا. وقد رُوِيَ عن ابن عباس أنَّه حمل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٤]، على مثلِ هذا (٢). وروي عنه حملُها على كتمان الشَّهادة (٣) لِقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣].

ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوبِ، كمحبةِ ما يُبغضهُ الله، وبغضِ ما يحبُّه الله، والكبرِ، والعُجبِ، والحَسدِ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير موجِب، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أَنَّه قال في سُوء الظَّنِّ إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ، فهو معفوٌّ عنه. وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدهُ الإِنسانُ، ولا يمكنهُ دفعُه، فهو يكرهُه ويدفعهُ عن نفسه، فلا يندفِعُ إلَّا على ما يساكِنُه، ويستروِحُ إليه، ويُعيدُ حديثَ


(١) رواه مسلم (١٢٦)، والترمذي (٢٩٩٢)، وصححه ابن حبان (٥٠٦٩).
(٢) رواه الطبري (٦٤٨١)، وسنده ضعيف.
(٣) رواه الطبري (٦٤٤٩) و (٦٤٥٠) وفي سنده يزيد بن أبي زياد الدمشقي، وهو ضعيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>