للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>


الصفحة ٥
ــ
ـ[عمود:١]ـ
عليهم مجانا وصولات الاشتراك من غير أن يدفعوا لي من قيمتها شيئا, بل قد أعطيت كل واحد منهم عشرة فرنكات لكي يشرب بها ((البيريتيف)) إلا لشيء سوى أن يعطي صوته في الانتخاب ضد الشيخ بن باديس وضد أصحابه العلماء؟ قلت: وما هو ذنب الشيخ بن باديس؟ وما هي ذنوب أصحابه العلماء؟ قال: لا ذنب لهم, ولكننا لم نقبض منكم ولا درهما واحدا وخصومكم قد أعطونا دراهم كثيرة (!!!) فقلت له: سواءً أخذتم الدراهم أم لم تأخذوا وأكلتم الرشوة أم لم تأكلوا فلا يكون ناخبا إلا من كان عالما أو طالبا للعلم, قال: إن الخمسة والأربعين الذين أكلوا الدراهم على يدي ليس فيهم ولا واحد يعرف الألف أو الباء, ولكن أخبرني عن الدراهم التي دفعتها إليهم هل أستردها منهم وما هم براديها إلي أم ماذا أصنع؟ فقلت له: أنت لم تستفتيني فيها أولا, فأرجوك أن لا تستفتيني الآن فيها, فقال: يجب أن أستردها من الذين كلفوني بإنفاقها, فقلت له: ذلك إليك.
ودقت الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم وافتتح الأستاذ بن باديس رئيس جمعية العلماء الجلسة الأولى من جلسات الاجتماع العمومي لجمعية العلماء بخطاب كان آية من آيات البلاغة وجاء جامعا لكل معاني الموعظة والذكرى, فخشعت له القلوب وفاضت له الأعين من الدمع ولكن الذين طبع الله علة قلوبهم فلا تنفع فيها الذكرى, وجعل في آذانهم وقرا فهم لا يسمعون قد كرهوا هذا الخطاب وقالوا لا تسمعوا له والغوا فيه لعلكم تغلبون, فهاجوا وماجوا, وأكثروا من اللغط والضوضاء, وكانوا مأجورين على أن يحدثوا في هذا اليوم الفتنة والشغب والفوضى وانتصب ((الجاهل الأمي)) كزعيم لهؤلاء

ـ[عمود٢]ـ
المشاغبين وجعل ((يروث من فمه)) ويسيء الأدب بحق هذا الاجتماع الحافل بالعلماء والأعيان, وكان الأستاذ باديس يخاطبه قائلا: ((يا سيدي فلان)) بكل هذا اللطف والأدب, ولكنه هو كان يقول للرئيس: ((يا ابن باديس (أي بضم نون ابن) فكان العلماء يضحكون من جهل هذا المخلوق, ويعجبون من وقاحته وقلة حيائه, وكان كل واحد إذا أراد أن يتكلم رفع يده وطلب من الرئيس أن يأذن له بالكلام إلا هذا المخلوق فإنه كان يتكلم بلا استأذن ونصب نفسه للرد على كل أحد وللجواب عن كل كلام, وكان يقول الكلمات الجارحة حتى اضطره الرئيس مرارا عديدة إلى أن يسحب كلامه وأن يبادر بالاعتذار, وذات مرة أراد أن يكون نظاميا متأدبا لا يخرق سياج الأدب والنظام فرفع يده وقال للرئيس: ((أطلِيب الكلام)) (بضم الهمزة وكسر اللام الممدودة) فلج الحاضرون في الضحك وقضوا من العجب.
وكان ((القوم)) قد تواصوا بالشر, وتواصوا بالمكر, واتفقوا فيما بينهم على أن يشاغبوا ويغلطوا إذا تكلم الأستاذ بن باديس أو غيره من العلماء, وأن يتظاهروا بالقبول والرضى إذا تكلم واحد من خمسة من أصحابهم قد عينوهم للكلام في هذا الاجتماع, وقد لقنهم بعض الناس أن يقولوا ((صواب, صواب)) لكل متكلم من هؤلاء الخمسة, ولكن واحدا من هؤلاء الخمسة قد تأثر من هذا الموقف وتبين له أن الحق كل الحق مع العلماء وأن ((القوم)) لا يريدون الخير, وإنما هم يحملون في صدورهم لجمعية العلماء أسوء المقاصد, وأخبث النوايا, فتاب وأصلح, وأذن له الرئيس في الكلام فقام وجعل يثني على الأستاذ باديس وعلى إخوانه العلماء ثناء عاطرا ويصفهم بالصدق والأمانة والأناة ونبل المقصد, ثم التفت إلى المشاغبين فانحنى عليهم باللآمة المرة وبالتوبيخ العنيف ولكنهم لجهلهم كانوا لا يزالون يظنون أن الرجل ما زال معهم, فجعلوا يصيحون بالموافقة على كلامه, ويقولون: ((صواب! صواب! صواب!)) والتفت إلي أحدهم وقال لي: ((أرأيت كيف غلبكم صاحبنا فلان فوافقتم على كلامه, ولم تقدروا على مجاوبته,! فقلت له: كلا بل هو الذي رجع إلى الحق والصواب, ولم يدع كلمة تجول في أنفسنا إلا قالها لكم فسكت الرجل, وبهت الذي كفر.
وكان ((القوم)) يريدون أن يستولوا على جمعية العلماء وإلا فإنهم عزموا على إحداث فتنة عمياء تسيل فيها الدماء, وحينئذ يمكنون للحكومة أن تحل الجمعية وأن تغلق نادي الترقي, ولكنهم خابوا في كلتا الأمنيتين {وَرَدَ اللَه الَذِينَ كَفَروا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالوا خَيْرًا وَكَفَى اللَه الْمؤْمِنِينَ الْقِتَالَ .. }.
لا أريد أن أصف هنا كل ما جرى في ذلك اليوم, ولكني أريد أن أقول إن احتفالات المبشرين بالألف والسبعمائة من المسلمين الذين ارتدوا عن دينهم الحنيف واعتنقوا النصرانية كانت في ٢٣ ماي الأخير (وقد ذكرت ذلك في المقال السابق) وأن هؤلاء المشاغبين قد ارتكبوا ما ارتكبوا بحق جمعية العلماء في مثل هذا اليوم من السنة التي قبلها, فهل كان ذلك عن تواطؤ وتدبير سابق أم وقع مصادفة واتفاقا؟ فإن كانت الأولى فلا نستغربها من ((قوم)) يسعون علانية لإغلاق المساجد ولإغلاق كتاتيب القرآن من غير أن يدركهم الخجل والحياء وإن كانت الثانية فهي من أعجب الاتفاقات وأدعاها إلى الدهشة والاستغراب!!!
محمد السعيد الزاهري

<<  <  ج: ص:  >  >>