ــ ـ[عمود:١]ـ حل الأستاذ مبارك الميلي ببلدة القرارم قادما من الميلية بعد صلة الرحم صباح يوم الأربعاء عاشر ربيع الآخر, وبنزوله من السيارة تسابق الناس إلى لقائه فتلقوه بوجوه ضاحكة مستبشرة وقلوب تحمل في سويدائها إيمانا صادقا وعطفا زائدا نحو العلماء العاملين. وقصد الكل محل آل بوزيان المعد لنزول الوافدين, وإن ما انتشر خبر قدومه حتى أسرع أهل البلدة للترحيب به وفي مقدمتهم بعض العلماء الذين كانوا هنا منهم الشيخ بلقاسم السوفي المتطوع بجامع الزيتونة. وفي عشية اليوم نفسه قدم من الميلية الشيخ محمد الصالح بن عتيق أحد المتطوعين بجامع الزيتونة والمدير لمدرسة الميلية وبرفقته الحافظ الأديب السيد محمد دريوش معلم القرآن بمدرسة الميلية وبعض الطلبة, فكان يوما عزيز الوجود, مضى هذا اليوم في محاورات علمية أدبية تناولت عدة جهات من حالة الأمة الجزائرية. عند صلاة العشاء قصد الناس المسجد الجامع لأداء فريضة العشاء, وبعد الصلاة ألقى الأستاذ الميلي درسا وعظيا إرشاديا في قوله تعالى: (((والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى))) إلى آخر السورة, وقبل الشروع في الدرس قرأها العالم الشيخ محمد الصغير اليعلاوي المقرئ السبعي بترتيل حسن وصوت رخيم, وبالانتهاء منها شرع الأستاذ في الدرس بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه, فأخذ ينثر على السامعين من معاني التفسير ما جعل الأعين إليه ناظرة, والقلوب من جلال كلامه تعالى خاشعة واعية. فأبان للسامعين قسمه تعالى بما ذكر في هذه السورة وما يستنتجه العقل السليم من بلاغة القرآن العظيم, وأن الله تعالى يقسم بما يريد من مخلوقاته لينبهنا إلى ما في المقسم به من علامات ناطقة بجلال قدرته, هذا بخلاف المخلوق فإنه لا يجوز له شرعا أن يقسم بمخلوق مثله. ومعلوم أن المقسم بالكسر بقسمه قد عظم المقسم به, والتعظيم لا ينبغي أن يكون إلا لله.
ـ[عمود٢]ـ وهكذا سار في إفهام الحاضرين إلى آخر السورة, معبرا لهم بعد تفسير الآية بلسانهم الذي يتخاطبون به, فما قاموا إلا وقد فهموها كما هي. ومن الغد ألقى درسا آخر بعد صلاة الظهر في قوله تعالى: (((يا أيها النبئ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا إلى قوله تعالى: إن الله غفور رحيم))) بمثل الأسلوب الذي سار عليه في الدرس الأول. فكان الإقبال عليه عظيما, وكانت النتيجة صادقة طيبة, وقد بين للحاضرين معنى المبايعة ومبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء المؤمنات, وأن مبايعة النساء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون لأحد, فتلقى الحضور هاته النصائح بارتياح عظيم, مما يدل على أن العقول قابلة لتلقي النور الإلهي. أقول: إن هذه الآية خلاف ما يفهمه الجهال من أهل هذا الزمان الذين يستبيحون مبايعة النساء بما يعطونهن من الأوراد, ويستندون في هذا إلى هذه الآية الكريمة. والحقيقة أنهم لم يعرفوا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا, خصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبايع النساء بوضع يده في أيديهن كما يفهمه (القوم) كما هو ثابت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها, نقل ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية حديثا رواه عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة التيمية خالة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من المسلمين فقلنا له جئناك يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن, فقلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا, فقلنا بايعنا يا رسول الله, فقال اذهبن فقد بايعتكن إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة, وما
ـ[عمود٣]ـ صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم منا واحدة اه. ثم ذكر ابن جرير رحمه الله حديثا آخر برواية أخرى عن أميمة بنت رقيقة المذكورة جاء في آخره: فقلنا يا رسول الله ألا تصافحنا, فقال: إني لا أصافح النساء ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة اه. فلينظر القوم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفهموها كما هي ثم يسيروا على ضوئها الوهاج فإنهم لا يضلون ما تمسكوا بها. أما والحالة هذه, جهل بالسنة, وبعد عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, وارتكاب لما حرم الله ورسوله فهذه أمور لا ينبغي السكوت عنها, فإذا نادى أهل العلم ودعوا الناس إلى السنة الصحيحة وقالوا إن ما عليه هؤلاء (القوم) اليوم وما دعوا إليه لا مناسبة بينه وبين السنة الصحيحة في هذا الوقت تقوم قيامة (القوم) على العلماء ويختلقون عليهم الأكاذيب ويحدثون لهم الفتن, لا لذنب سوى أنهم جاهروا العامة بأن ما عليه (القوم) اليوم ليس من السنة في شيء, فإذا أراد القوم أن يكونوا من أنصار السنة ومؤيديها فما عليهم إلا اتباعها كما هي من غير تبديل ولا تغيير. أما إذا تمادى القوم في طريق غير طريق السنة فليعلموا أن واجبا على العلماء أن يبينوا للعامة السنة الصحيحة حب من أحب وكره من كره ولا يضرهم من خالفهم ولا يزيدهم ما أصابهم في سبيل إحياء السنة النبوية إلا صبرا وإقداما, (((فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين))). وفي عشية الخميس حادي عشرة ربيع الآخر سافر إلى بلدة ميلة بصحبة بعض الأعيان الفضلاء جاءوا لملاقاته, مشيعا من أهالي بلدة القرارم بما يليق بحضرته. حيا الله رجال جمعية العلماء وبياهم وأعانهم على إحياء سنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم وقتل ما أحدثه المحدثون. عبد اللطيف بن علي القنطري العضو بالجمعية المدرس بالقرارم