للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يا حسنه من جدول متدفق ... يلهي برونق حسنه من أبصرا

ما زلت أبذره عيونا حوله ... خوفا عليه أنت يصاب فيعثرا

فأتى وزاد تمادياً في جريه ... حتى هوى من شاهق فتسكرا

فسر المنصور بأبياته وأحب استطلاع خباياه وأمره بالجلوس إليه وجعله أرفع القوم لديه ولم يستقر به المكان ولا قعد ولا استكان حتى تحرك المجلس لغلام ورد كأنما يبسم عن برد فقال له المنصور بصوت يخفيه ما تقول فيه فقال:

بأبي أهيف تبدي وحي ... بابتسام عدمت منه اصطباري

فأراني بوجهه وثنايا ... هـ نجوما طلعن وسط النهار

فقال له سرا وقد أسفر وجهه وتسرا إلا أنه شديد النفار من المدام وله قرع بالملام فهل تقدر على استلانته وتسهيل بأسه واستهانته فما قطع المقال حتى التفت إليه ابن تميم وقال:

أتهجرها صرفا لأجل خمارها ... وذلك شيء لو جرى غير ضائر

فلا تخش من داء الخماري وعاطها ... هنيئا مرياء غير داء مخامر

فكاد الغلام يسطو عليه كالعائب وقال له كالعابث ما هذه فقال:

صفراء لو لاحت لشمس الضحى ... من قبل أن تطلع لم تطلع

أحسن ما في وصفها أنها ... لم تجتمع والهم في موضع

فقال بل أشرب خيرا منها وأدع المنهي عنها، ثم إنه أتى بركة فعب من مائها وأرى وجهه خيال قمره في سمائها فقال:

أفدي الذي بفيه شاربا ... من بركة طابت وراقت مشرعا

أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معا

ثم لم يزل به حتى شرب ولذ معه ليلة وطرب فلما طلع ابن ذكا وأنار الصبح وأضاء شكر له المنصور حل عقدة الغلام وقال مثلك من سحر بالكلام ثم أحسن له الجائزة وغدا ابن تميم ويده لها جائزة.

وحكى عنه أنه استدعاه في صبيحة يوم أبيض ونوبات ياسمينه على الأرض تنغض والثلج قد نثر كافوره والجليد قد كسر بلوره والسحاب قد أصبحت ذيولها مجرورة والبرق قد تلون طول ليلته حتى أخرجها من صورة إلى صورة وأواني الزجاج قد شقت من وراء مدامها والدنان قد فك عنها ختام قدامها ورجال الراح قد زادت في أقدامها والساقي بعذار كأنما كتب بالريحان أو نسج بالزمرد نبت ألحان وتحت عذراه خيلان قد خبأت مسكها فزاد تضوعا وكثر طيبه تنوعا قد تأرج نشرها وفاح وعلم بنقطها في خده بأنه قديم وصف التفاح فلما دخل عليه في بكرة ذلك اليوم الأغر ورأى الدنيا ضاحكة تغتر أنشده:

يأيها الملك الذي بسطت له ... بالجود كف دهرها لم تقبض

دنياك مذ وعت بأنك لم تزل ... في نعمة وسعادة لا تنقضي

كأن الدليل على وفاها أنها ... أضحت تقابلنا بوجه أبيض

فأجزل له الصلة ولم تكن عوائده بمنفصله.

ذكر ابن ظافر في بدائع البادية أن المعتمد بن عباد كان جالسا فمر عليه بعض خطبائه في غلالة لا يكاد يفرق بينها وبين جسمها فسكب عليها إناء ماء ورد فعجب من حسنها وجمالها فقال:

وهويت سالبة النفوس عزيرة ... تختال بين أسنة وبواتر

واستجان النحلي وهو على الباب فقال:

راقت محاسنها ورق أديمها ... فتكاد تبصر باطنا من ظاهر

وتمايلت كالغصن في ورق الندى ... يلتف في ورق الشباب الناضر

تبدي بماء الورد عنبر شعرها ... كالطل يسقط من جناح الطائر

تزهي برونقها وحسن حديثها ... زهو المؤيد بالثناء العاطر

فلما قرأها استحسنها وقال له أو كنت معنا جالسا.

وقال محاسن الشورى:

وحولك من كماءة الأرض شوش ... غلائلها الجواشن والدروع

قد اعتقلوا ذوائب كالأفعى ... إذا اضطربت عواملها تروع

تلوك اللجم تحتم جياد ... سلاهب ما بها عطش وجوع

صدمت بهم فريق الترك حتى ... تهدم ركن جمعهم المنيع

فكروا والصوارم تستضاء ... بأيديهم فعلقها النجيع

وقال الصليعي الداعي رحمه الله:

أنكحت بيض الهند سمر رماحهم ... فرءوسهم عوض النثار نثار

وكذا العلا لا يستباح نكاحها ... إلا بحيث تطلق الأعمار

وقال ابن رشيق الأزدي:

لو أورقت من دم الأبطال سمرقنا ... لاورقت عنده سمر القنا الذبل

إذا توجه في أولى كتابته ... لم تفرق العين بين السهل والجبل

فالجيش ينفض حوليه أسنته ... تقض العقاب جناحيها من البلل

<<  <   >  >>