للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قاضي بعلبك في كتاب مفرح النفس وقد أجمع الأطباء والحكماء والألباء قاطبة على أن النظر إلى الصور الجميلة البديعة الجمال يفرح النفس وينشها ويزيل عنها الأفكار والوساوس السوداوية ويقوى القلب قوة لا مزيد عليها بسبب إزالة الأفكار الرديئة عنه ثم قالوا فإن تعذر حصول النظر إلى الصور الجميلة فليكن النظر إلى صور جميلة متقنة الصنعة مصورة في الكتب أو في الهياكل أو في القصور الشريفة وهذا المعنى قد ذكره الحكيم محمد بن زكريا الرازي رحمه الله وبالغ في ملازمة فعله لمن يجد في نفسه أفكاراً رديئة ووساوس فاسدة غير موافقة للنظام الطبيعي وقال فإن الصور الجميلة إذا جمعت إلى صورتها حسن الأصباغ المألوفة من الأصفر والأحمر والأخضر والأبيض مع ضبط نسبة المقادير في أشكالها فإنها تشفى الخلاط السوداوية وتزيل الهموم الملازمة لنفس الإنسان وتزيل الكدورة عن الأرواح لن النفس تلطف وتشرق بالنظر إلى مثل هذه الصور فيتحلل ما فيها من الكدورة قال وتفكر في الحكماء المتقدمين الذين استنبطوا الحمام في مدد من السنين كيف علموا بدقة فكرهم وصائب عقلهم إن الحمام إذا دخله الإنسان يتحلل من قواه شيء كثير فأفيضت حكمتهم أن استخرجوا بعقولهم ما يجبر ذلك سريعا فرسموا في الحمام صوراً بديعة الصنعة بأصباغ حسنة مفرحة وقسموا ذلك إلى ثلاثة أقسام ولم يجعلوه قسماً واحداً لنهم علموا أن أرواح البدن ثلاثة أصناف: حيوانية ونفسانية وطبيعية فجعلوا كل قسم من التصوير سبباً لتقوية قوة من القوى المذكورة والزيادة فيها وصوراً للقوة الحيوانية القتال والحرب وطرد الخيل واقتناص الوحوش وصوراً للقوة النفسانية العشق والتفكر في العاشق والمعشوق وتصوير معاتبة بينهما أو معانقة وما أشبه ذلك وصورا للقوة الطبيعية البساتين وصور الأشجار البهية المنظر مع كثرة تصوير الأزهار والألوان المشوقة فهذه التصاوير وأمثالها هي جزء من أجزاء الحمام الفاضل ولو سألت المصور المصير عن خصوصية أن الحمام لم لا يصور المصورون فيها إلا هذه الأقسام الثلاثة لما علم لها تعليلاً لكن بذكر هذه الصفات الثلاثة لا تعلل وسبب ذلك تقادم السنين على تعليل مبادئ الأشياء فما خلوا شيئاً سدا ولا يجعل شيء هدرا، وقال الحسن المتطبب ورأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هرون بن الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن محمد الجوينى حماما متقن الصنعة حسن البناء كثير الأضواء قد احتفت به الأنهار والأشجار فأدخلنى إليه سائسه وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين علي بن الفجر عيسى المنشى الأربلى وكان سائس هذه الحمام خادما حبشيا كبير السن والقدر ففرجنى في ميائه وشبابيكه وأنابيبه المتخذة بعضها من الفضة المطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوت بأصوات طيبة ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض ترمى جميعها إلى بركة حسنة الإتقان ثم منها يخرج إلى البستان ثم فرجنى في خلوة نحو عشر خلوات كل خلوة صنعتها احسن من أختها ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه ودخل بي إلى دهليز طويل كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج وفي صدر الدهليز مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة انفس إذا كانوا قعودا وتسع اثنين إذا كانا جالسين أو نائمين ورأيت من العجيب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالاً لا فرق بينه وبين صقال المرآة يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وخضر ومذهبة وكلها متخذة من بلور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر فإما الأخضر فقيل أنه حجارة تأتى من الروم والمذهب فهو زجاج مليس بالذهب صوراً في غاية الحسن والحمال وهم على هيئات مختلفة في نومهم وهم بين فاعل ومفعول به إذا نظر إليهم الإنسان تتحرك شهوته قال الخادم هذا صنعوه هكذا المخدومي حتى إذا نظر إلى ما يفعله هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على إعجاز بعض تتحرك شهوته سريعاً فيبادر إلى مجامعة من يحب قال وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي رأيت هي مخصوصة بهذا الفعل إذا أراد الملك هرون أن يجتمع بأحد من مماليكه أو خدمه الحسان أو جواريه أو نسائه في الحمام ما يجتمع به إلا في هذه الخلوة فإنه لما يرى كل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط ومجسمة بين يديه يرى كل

<<  <   >  >>