قلت: أنشأت هذا اللغز الظريف التركيب للشيخ العلامة بقية السلف الصالح زين الدين أبي بكر بن عثمان الشهير بابن العجي بمنزلة بمدرسة الكاملية بشارع بين القصرين عند ارتحالي في أوائل سنة خمسة وتسعين وسبعمائة فأجاب بهذه الأبيات:
ايا من له مجد أثيل وسؤدد ... غدا دون مرماه سماك وفرقد
تفيد يسار المقترين يمينه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود
سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على عودها في الروض تشدو وتنشد
وتجذبني بالطوق حين نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند
يطير بها نحو النجاح جناحها ... فتبلغ
ما تختار ثم وتقصد
وفي بطن أنثى لم تصور وإنما ... تصورها من جنسها من يرفد
تذكرني تدركاها أم هانئ ... فتشرف في نفسي إذا وتمجد
ومذ بان منها الطرف أمست بعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد
وإن حذفت ثاني الأخير فإنه ... على الحذف خاف بل يلوح ويشهد
وأولها مع مايليه وطرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي منه يقصد
وحرفان منها فرد حرف لناطق ... وأف لمن للعكس من ذاك يجحد
وتفتح فاها حين يفقد ثالثاً ... وثالثه يخشاه من يتصيد
فخذه مبيناً مغيضاً عن إساءتي ... فإنك للإحسان أهل ومقصد
بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجوزا لوءاك يعقد
ولا زلت في الدنيا سعيداً مملكاً ... حظك في الآخرة النعيم المخلد
وأما الشعين وهو الذي تسميه العامة اليمام وصوته في الترنم كصوت الرباب في الأوتار صوتاً محزوناً جداً وهي متى اختلطت مع أصواتها غيرها حسنت وأما مفردة فلا لأن الزأر مستحسن مع الغناء وغير مستحسن وحده.
وفي طبعه أنه متى فقد أنثاه لم يزل عزباً يأوي إلى بعض فراخه حتى يموت، وكذلك الأنثى إذا فقدت الذكر.
وفي تركيبه أنه إذا سمن سقط ريشه وامتنع من السفاد فهو لذلك لا يشبع نفسه.
وهو طائر ساكن جداً وقد ألهم أنه يحترس من أعدائه بالسوسن يتخذه في وكره.
الوصف: ولنذكر الآن ما وقع للشعراء في أصواتهن جملة لا تفصيلاً فمن ذلك قول الحسام الحاجري (توفي مقتولاً سنة اثنتين وثلاثين وستمائة) :
إني لا اعذار في الأراك حمامة الش? ... ِادي كذلك تفعل العشاق
حكم الغرام الجاجري بأسرها ... فغدت وفي أعناقها أطواق
قال القاضي الفاضل:
لو كنت جاوبت الحمائم نائحاً ... قال الوشاة إذاع سرك بائحاً
سل طائراً صدع الفؤاد بسحره ... أتراه غرد صادعاً أم صادحاً
يا ضعف من أمسى الفريسة في الهوى ... وغدا الحمام له هنالك جارحاً
وقال المناري:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحا
شجى قلب الخلى فقيل غني ... وبرح بالشجى فقيل ناحا
قلت: وبعد هذين أبيات فلا بأس بذكرها وإن لم يكن مما نحن فيه:
وكم للشوق في أحشاء صب ... إذا اندملت أجد لها جراحاً
ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحاً
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة ... كأحداق المهى مرضى صحاحاً
قلت: ولهذه الأبيات حكاية غريبة نقلتها من خط الحافظ اليعموري (ولد سنة ستمائة وتوفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة) روى أن أبا نصر المناري المذكور واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري وهو في الشام في جماعة من الأدباء فأنشده كل واحد من شعره ما تيسر حتى أنشده المناري أبياتاً له في وصف واد وهي:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... أرق من المدامة للنديم
يصد الشمس أنَّا واجهتنا ... ويحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
فقال ابو العلاء: أنت اشعر من بالشام، ثم رحل إلى بغداد فدخل المناري عليه في جماعة من أهلها من الأدباء وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً فأنشده كل واحد ما حضره من شعره حتى جاءت نوبة المناري فأنشده لنفسه الأبيات المتقدمة فقال أبو العلاء ومن بالعراق إشارة إلى قوله من بالشام (توفي المناري سنة سبع وثلاثين وأربعمائة) .