للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم تخاذلوا عنه، لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الأمثال وتناشدون الأشعار تربت أيديكم وقد نسيتم الحرب واستعدادها وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل".

إن العثور على الأوراق السالفة الذكر صادف هوى من نفوسهم فازدادوا بها إقبالا على الشعر، وزخر بحره عندهم وقذف فيه بالملح والطرف إلا أن النحل والافتعال طغيا عليه، حتى التبس الأمر على الناس، وأسند القول إلى غير قائله، قال أبو الطيب: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم"١.

حقا لقد كان ذلك، إذ كان من رواتهم حماد المذكور الذي جر عليهم التلبيس في المرويات والازدياد عليها مختلقاته، وقد كان ضليعا في الشعر وآداب العرب إلا أنه رقيق الأمانة، قال فيه المفضل الكوفي: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن؟ ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟ "٢.

بل إن خلفا الأحمر البصري زاد ذلك ضغثا على إبالة٣ فقد كان كذلك مضرب المثل في محاكاته من ينسب إليهم الشعر، روى عنه الكوفيون كثيرا


١ مراتب النحويين ص١١٩ ونقل في المزهر النوع الرابع والأربعين.
٢ هذه الكلمة في الأغاني ترجمة حماد، وفي معجم الأدباء في كل من ترجمة حماد وترجمة المفضل، وفي خزانة الأدب شاهد ٧٧٤.
٣ الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس -وهو المثل رقم ٢٢٠٢- في مجمع الأمثال ومعناه: بلية على أخرى.

<<  <   >  >>