أمر به ووعد عليه الإجابة والإنابة لكن من قدر عليه الشقاء فالأول حاله حتى ان تصبيه الشدة فيخلص لله الدعوة، فإذا استجاب الله دعاءه وأنعم عليه مولاه جاءته الاستحالة {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} ومن وفق الإنصاف بالإخلاص رأى وشاهد بحديقة عين رأسه وبصيرة عين جنانه، وتأمل بقلبه أحوال هؤلاء المدعين الإيمان، مع أحوال الأولين وجدهم في أصل دين واحد ومعناه متفقين، وفي تركه جملة مختلفين، إذ الأولون يشركون تارة ويخلصون أخرى التي هي للدعاء أولى، وأما هؤلاء فإنهم أكثر شركاً في هذه التي هي محل الإخلاص لملك الناس زيادة على التي قبلها من عدم حصول الشدة والبأس.
(السادس) : أنه قد زعم أن مجرد التصديق بالله وبرسوله وباليوم الآخر هو معنى التوحيد المقصود من لا إله إلا الله، وان ليس لها من المعنى إلا ذلك، فظن ان معناها خاص بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شيء ومرسل الرسل ومنزل الكتب ومحيي ومميت ومجاز بالأعمال، وهذا هو الذي يسمونه أهل الكلام توحيد الأفعال حتى قد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة فقلبوا حقيقته عن موضوعه، فطائفة ظنت أن التوحيد هو مجرد إقرار لسان العبيد بربوبيته تعالى، وأنه خالق كل شيء، وأنه على كل شيء وكيل، وطائفة ظنت أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، وان من شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئة الله الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختصة بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وما حجهم في ذلك إلا لشمول القدر كل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه، وطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضاً. يسمون أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم التركيب والعقل ينفيه فقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في كل الأعيان والله سبحانه وتعالى ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لم يزل موصوفاً بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.