والرق عبودية كلما استرق القلب واستعبده من الأمور فالقلب عبده ورقيقه، ولهذا يقال في العبد حرٌ ما قنع والحر عبدٌ ما طمع ومنه قول القائل:
قصدت الشام أطلب مستقراً ... فلم أجد لي بأرض مستقراً
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو إني قنعت لكنت حرا
ويقال الطمع غل في العنق وقيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وان أحدكم إذا أيس من شيء استغني عنه، وهذا مشاهد فان ما لا طمع فيه إذا أيس منه القلب لا يطلبه ولا يطمع فيه فلا يبقى فقيراً إليه رقيقاً له إلاَّ عشق الصورة، وقد يضمحل مع اليأس أيضاً، وقال الخليل صلاة الله وسلامه عليه فابتغوا عند الله الرزق، وذلك أن العبد لابد له من رزق وهو محتاج إليه فإن طلبه من الله كان عبد الله فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق كان عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسئلة المخلوق محرمة في الأصل وإنما تباح عند الضرورة، وتد ورد النهي عنها في أحاديث كثيرة مذكورة في الصحاح والمسانيد والسنن كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم" وقال: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه" وقوله: " لا تحل المسألة إلاَّ لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع" وهذا المعنى في الصحيح وفيه أيضاً: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطاً في بحث الدعاء، فطمع العبد في ربه ورجاؤه منه يوجب عبوديته له وإعراض القلب عن الله وعن رجائه يوجب انصراف قلبه عن عبوديته لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رياسة له وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو حي قد مات أو يموت قال الله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن يرزقوه أو ينصروه أو يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم