للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هنا فإن ما عاشه الإمام الداعية في مجتمعه في قلب الجزيرة العربية، وما عاشه وسمع عنه في أجزاء أخرى من الوطن الإسلاميّ من تخلّف فكريٍّ وعقيديٍّ واندثار في القيم والأخلاق والمثل، وردة مهينة إلى مفاهيم الحياة الجاهلية الأولى، وما يصحب ذلك من تمزق واضمحلال وسقوط مشين في الضلالة الوثنية، والبدع والخرافات.

وما تبع كل ذلك من تمزق في الكيان العام للبنية الاجتماعية لضبط الجماعة والإدارة والمجتمع "وهو ما يعرف بالدولة" حيث هجرت ضوابط كبح المجتمعات وألغي الحكم بالشريعة الإسلاميّة وعاد الحكم عرفيّاً يقرره وينفّذه رجل القبيلة دونما اعتراض أو احتجاج، وأصبحت الأحكام الشرعيّة وقافً على شؤون الإفتاء في العبادات، وكثيراً ما تجانب الصواب.

وأصبح المنتسبون للعلم والفتوى –إلا قليلاً منهم- يقضون جلّ أعمارهم في الانشغال بالتعليقات والحواشي، واستنباط الأسئلة الافتراضية البعيدة الوقوع والاحتمال، وأحياناً يأخذون الرشوة ويجمعون رزقهم من كتابة الحجب وبيع الأفكار المبتدعة، والترنم بقصائد المديح في الموالد والمواسم والمناسبات المفتعلة.

وافتقدت النفوس كل سمو في المعاني وشموخ في الأفعال، وعادت إلى التواضع في الأقوال، وممارسة المهانات، حتى لكأن الإسلام العظيم لم يترك أي أثر حضاريّ في تلك النفوس.

كل تلك الصور الحزينة لم تكن هي صورة للوضع في الجزيرة العربية فقط، وإنما كانت صورة متناسخة لمعظم البلاد الإسلامية، فذلك السقوط الخطير في أوحال الجاهلية، وذلك التفكك الاجتماعي، كان قدراً مشتركاً بين أبناء البلاد الإسلامية، فلم تكن العراق أو الشام أو تركيا أو المغرب مثلاً أحسن حالاً من سكان أبناء الجزيرة في المستوى الديني والاحتكام إلى الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

<<  <   >  >>