للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة]

سأضرب مثالين اثنين لهذا التوازن والاعتدال في جانبين فقط: مثال في جانب التوازن والاعتدال بين الروح والمادة، أو بعبارة أخرى: بين الدين والدنيا.

ومثال آخر لتوازن المنهج في التشريع.

المثال الأول: التوازن والاعتدال بين الدنيا والآخرة.

إن المتتبع لصفحات تاريخ بني الإنسان يرى جماعات وأفراداً قد ركزوا على إشباع الجانب المادي في الإنسان، وعلى إشباع الجانب المادي في هذه الحياة.

فعلى مستوى الأمم والجماعات كلنا يعرف قصة عاد وخبر ثمود وحال يهود.

وعلى مستوى الأفراد كلكم يعلم قصة صاحب الجنتين الذي دخل مغروراً بثروته؛ لأن التركيز على الجانب المادي فقط دون التركيز على الجانب الروحي يورث الترف، لا يعرف آخرة، ولا يعرف رباً، ولا يعرف ديناً، ولا يعرف موتاً، ولا يؤمن بعذاب قبر ولا بنعيم قبر، وإنما لا يؤمن إلا بالكرسي الزائل، ولا يؤمن إلا بالمنصب الفاني، إذا أتيت لتذكره بالله ولتذكره بالآخرة لن تجد أي تأثير لتذكرتك ولا لموعظتك؛ لأنه لا يعيش إلا لجانب واحد، مات فيه الجانب الآخر منذ زمن، وأنت إذا ما ذكرته تريد أن تضرب على هذا الوتر الحساس لتذكر فيه الجانب الخير بالله جل وعلا، فإذا عاش الإنسان للدنيا ولشهوات بدنه يورثه هذا العيش ترفاً وغروراً، وكبراً واستعلاءً، وظلماً وغطرسة وبطشاً.

هذا صاحب الجنتين يدخل بهذه الروح المستعلية ليقول لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:٣٤-٣٦] روح الاستعلاء والغطرسة والغرور والكبر.

وعلى مستوى الأفراد أيضاً: قارون الذي طغى على قومه وأهله، وقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فبالرغم من ذلك نسي فضل الله عليه، وعظمة الله عليه، ونعم الله عليه، وظن أن هذا المال وهذا الخير إنما هو بإدارته وبعلمه وبعقله وبفكره، وبصبيانه وبأولاده وبجنوده، ونسي أن الأمر كله لله، وقال بروح الاستعلاء هذه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] .

وهذا هو فرعون بنفس هذه الروح ما عاش إلا لهذا الجانب الدنيوي، ومن خلاله استعبد قومه ونظر إليهم نظرة المتأله عليهم وقال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١] انظر كيف يخرجون من هذا الجانب المادي إلى الجانب الآخر! إلى أن يؤله الواحد منهم نفسه، وأن يجعل هؤلاء عبيداً له: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١] ، والحمد لله، فقد أجراها من فوقه.

وأنتم تعرفون ما حصل لـ قارون، وما حصل لفرعون، وما حصل لكل الفراعنة، فإن هذه سنة كونية ثابتة، أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان إذاً فالتوازن والاعتدال، صنف من الناس عاش وركز على الجانب المادي في الإنسان وعلى الجانب المادي في الحياة، وفي مقابله نرى صنفاً آخر ركز على جانب الروح، ونظر إلى الجانب المادي في الإنسان على أنه رجس، ونظر إلى هذا الجسد على أنه من الشيطان، ونظر إلى الجانب المادي في هذه الحياة المادية على أنه من المحرمات، فحرم على نفسه الطيبات، وعاش ليغذي الروح، ابتدع رهبانية ما كتبها الله عليه، وهؤلاء هم النصارى كما قال ربنا جل وعلا في القرآن.

وبين هاتين النزعتين المتطرفتين -النظرة المادية، والنظرة الروحية- جاء الإسلام بتوازن واعتدال بين هاتين النزعتين، وبين هاتين النظرتين.

أيها الحبيب! جاء الإسلام ليقول بأن هذا الإنسان خلق من طين وروح، ومن حكمة الله أن يخلق الله هذا الإنسان من هذين العنصرين من الطين ومن الروح، فبعنصره الطيني إنما هو قادر على أن يسعى في هذه الأرض، وعلى أن يعمرها، وعلى أن يصلحها، أما إن كان فيه الجانب الروحي متيقظاً أيضاً فسيستغل هذه العمارة لطاعة الله، وللقرب من مولاه جل وعلا.

وقال سبحانه مبيناً هذا التركيب في قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:٧١-٧٢] ، جاء القرآن ليقول بأن الإنسان من طين وروح، ومن حكمة الله أن يكون الإنسان كذلك، ثم جاء القرآن ليبين لنا أنه لابد من العمل للدنيا، وفي نفس الوقت لابد من العمل للآخرة، وأن لا يطغى جانب على حساب جانب.

اقرأ معي هذه الآيات التي هي العمدة في هذه الجزئية، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:٩-١٠] .

آية عجيبة، إذا نودي للصلاة تعال واترك التجارة، واترك العمل وأقفل المحل، إننا الآن نرى المرء ممن يتسمون بالمسلمين يسمع النداء من الله جل وعلا حي على الصلاة حي على الفلاح وتراه بمنتهى البجاحة ومنتهى قلة الحياء كأنه ما سمع شيئاً، ولا مانع على الإطلاق أن يرفع صوته عليك بعد ذلك ليقول: إنني مسلم.

يسمع النداء وهو مضيع لحق الله، وبالرغم من ذلك قد تراه يتبجح عليك إذا ما ذكرته، وهو يقول: أنا أصلي لماذا؟! الأولون صلوا فما الذي حصلوا؟ وليس كل من لم يصل مجرماً! إنا لله وإنا إليه راجعون.

فإذا نودي عليك للصلاة اترك العمل وأغلق المحل، واترك التجارة، واترك الأولاد، واترك الزراعة، واترك المنصب، وانزل من علي الكرسي لتضع أنفك وجبينك في التراب ذلاً للخالق جل وعلا صاحب الفضل والنعم عليك، ورحم الله من قال: تأتي للصلاة في فتور وكأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاءِ ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي يوماً بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء وإن كُنْتَ المُجالس يوماً أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيها بحب أو صفاء إنا لله وإنا إليه راجعون، اترك عملك، واترك تجارتك، واترك أولادك، واترك مكتبك، واترك كرسيك، وإذا نودي عليك للصلاة فلب أمر الله جل وعلا، وضع أنفك وجبينك على الأرض ذلاً لخالقك ورازقك ومولاك سبحانه وتعالى.

وإذا ما أتيت الصلاة وأنهيت الصلاة وأديت حق الله جل وعلا فانطلق إلى عملك، وإلى تجارتك، وإلى أولادك، وإلى مزرعتك، واسع في الأرض، وكل من الحلال الطيب، لا يحرم الإسلام عليك هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:٩] فإذا أنهيتم الصلاة: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] .

واسمع إلى قول الله جل وعلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧] .

توازن عجيب بين الدين والدنيا.

ولنا في رسولنا وأستاذنا وقدوتنا المثل الأعلى والقدوة الطيبة، فهو الذي وازن بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة موازنة تتألق سمواً وروعة وجلالاً وكمالاً، الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو القدوة الذي جمع بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة، لم يغلب جانباً على حساب جانب، ولم يفرط في جانب على حساب جانب، كلا.

وانظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم.

بل من أعجب ما قرأته له صلى الله عليه وآله وسلم دعاءٌ من دعائه، والحديث في صحيح مسلم، فقد كان الحبيب يدعو ربه جل وعلا ويقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ، انظر إلى المنهج النبوي في التوازن والاعتدال: (اللهم أصلح لي ديني) ، هو الأصل، لو ابتليت في دينك فهذه هي المصيبة بعينها، وإن ابتليت في الدنيا فإن الأمر هين إن شاء الله جل وعلا، مصيبة الدين هي المصيبة، فإن من الله عليك بالإيمان والتوحيد، والثقة به والتوكل عليه، واليقين فيه، والتفويض إليه والرجاء فيه فاسجد لربك شكراً، مهما كان ابتلاؤك في الدنيا بعد ذلك، فغيرك يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.

(يؤتى بأنعم رجل) والحديث في الصحيح: (بأنعم رجل من أهل الدنيا) ، ولكنه من أهل النار في الآخرة، كان منعماً في الدنيا، ما وطئت رجله الأرض، إذا نزل من السيارة وضع له السجاد ليمشي عليه حتى لا تطأ قدمه الأرض على الإطلاق، رجل منعم ولكنه ما عرف الله، وما عرف مولاه وما سجد لله، بل حارب الله وحارب رسول الله، وصد عن سبيل الله، يؤتى هذا يوم القيامة ويغمسه الله غمسة واحدة في جهنم، ويخرجه ويقول له: (هل رأيت

<<  <  ج: ص:  >  >>