للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ما يستفاد من قصة الثلاثة]

الدرس الأول: هو من أهم الدروس: أن الدنيا دار ابتلاء، وبوتقة اختبار، وهذا درس مهم جداً {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:١-٢] .

فإن كثيراً منا الآن يعيش في الدنيا وكأنه يعيش الدار الخالدة الباقية، مع أن الله جل وعلا قد حذرنا تحذيراً متكرراً من الدنيا في أكثر من سورة من سور القرآن.

اسمع إلى الله سبحانه وتعالى وهو يقول: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٥-٤٦] ، ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] ، ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] .

آيات كثيرة يحذرنا الله فيها من حقيقة الدنيا.

وأريد أن أركز على جزئية هامة ألا وهي: أنني أرى كثيراً من الدعاة إذا ما تعرضوا للحديث عن الدنيا عقّدوا الناس في عيشتهم، وترى الرجل الذي من الله عليه بشيء منّ الدنيا يجلس في مثل هذه المحاضرات مكسوف البال، مطأطئ الرأس، وكأنه المقصود بالكلام! يا أخي! الدنيا مزرعة للآخرة، يا أخي! الدنيا مصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، فأذكر نفسي وإخواني الشباب من الدعاة الطيبين أن يكونوا متوازنين، تذكر الناس بحقيقة الدنيا، وأنها دار فناء، ودار زوال، وبوتقة ابتلاء، وبوتقة اختبار، وأن الإنسان مبتلى، وإن منَّ الله عليك بالمال فأنت مبتلى، وإن ابتلاك الله بالشدة فأنت مبتلى؛ لكن لابد أن تركز على الجانب الآخر وهو أهمية الدنيا، وأنه ينبغي أن نعمر الدنيا، وأن نتاجر، وأن نصنع، وأن نزرع.

إلخ، بل لقد أمرك الحبيب المصطفى لو كانت بيدك فسيلة واستطعت أن تغرسها قبل أن تقوم الساعة فاغرسها، ولا تقل: متى تكبر؟! ومتى تثمر؟! ومن يأكل؟! فهذا ليس إليك، وليس بالضرورة أن تأكل أنت من ثمر يدك، ولكن ازرع واعمل لإخوانك ولأحبابك، والنتائج ليست لك، وليست عليك، إنما هي بيد مسبب الأسباب جل جلاله.

يا أيها الحبيب الكريم! بين للناس حقيقة الدنيا، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلو أنك زرعت فيها بنية طيبة أجرت.

ومتى تكون الدنيا ملعونة؟ إذا صدتك عن الله، وأبعدتك عن الله، وأخذتك من الآخرة، لكن {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧] .

أما قولهم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) فليس حديثاً نبوياً، فإن كثيراً من الناس يظنه حديثاً، وإنما هو من كلام علي بن أبي طالب، فلا مانع من أن نزرع ونصنع ونتاجر، ولكن بشرط: ألا تشغلنا الدنيا عن الآخرة.

فإذا سمعت الأذان اقفل المكتب واقفل المحل، واستجب لنداء الحق تبارك وتعالى، ولنضع الأنوف والجباه في التراب ذلاً لخالقنا ورازقنا جل جلاله، فلابد من توازن، فبعضهم يجلس أمام التلفزيونات ويأذن العصر والمغرب والعشاء والفجر، وهو لا يتحرك! وبالمناسبة كنت مرة في محاضرة في السويس، وكنت أتكلم عن التلفزيون واشدد فيه، فقال لي رجل -قد توفي، أسأل الله أن يغفر لنا وله وأن يرحمه، وأن يسكنه فسيح جناته-: يا شيخ! أنت تتكلم على التلفزيون، فهل يعني هذا أنه ليس عندك تلفزيون؟! قلت له: نعم ليس عندي، والحمد لله.

قال: هل هذا ممكن؟! قلت له: والله ليس عندي، قال: والله حرام عليك! المهم أن بعض الناس يقضون الليل كله، ومنهم -ولا أقول: كلهم- من لا يقوم لصلاة الفجر، مع أنه قد قضى الليل كله في اللهو والمعصية، ما شاء الله! أقام الليل كله مع كأس المرارة والخمر، لكن هل يستطيع أن يقوم في الليل لله ساعة أو ساعتين؟! الشيطان يثقل عليه النوم.

فيا أيها الحبيب الكريم! الدنيا مزرعة الآخرة، وهي محط ابتلاء وبوتقة اختبار، فاعرف حقيقتها حتى لا تغتر بها، كان علي بن أبي طالب إذا جاءته الدنيا يقول لها: (غري غيري، غري غيري) ، وهل هذا يعني أن أبيت الليل والنهار في المسجد، وأترك التجارة، وأعتكف وأعتزل المجتمع؟ لا، بل هو الفارس الذي وقف في ساحة الميدان والبطولة والشرف يوم خرست الألسنة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف علي بن أبي طالب يدافع عن دين الله جل وعلا.

كان هناك توازن واعتدال حتى عند سيد الرجال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أنه جاء ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، فقال الأول: أما أنا.

إلى آخره، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وفي نفس الحديث قال: (أما إني والله لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل) فالمهارة كيف توازن بين الدنيا وبين الآخرة، إياك وأن تأخذك الدنيا فتشغلك عن الآخرة، وتنسى حق الله تبارك وتعالى، وتنسى أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.

ثانياً: من الدروس البليغة التي يجب أن نقف أمامها في هذه القصة النبوية المباركة: أن كفران النعم سبب لزوالها، فقد جاء السائل إلى الأبرص وقال له: (مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، بعيراً أتبلغ به في سفري، قال: الحقوق كثيرة، قال: والله لكأني أعرفك! ألم تكن أبرص يشمئز الناس منك وينصرف الناس عنك؟ قال: كلا بل ورثت هذا المال كابراً عن كابر) فالإنسان قد ينسى أصله، وينسى فقره وضعفه وعجزه، من أنت أيها الإنسان؟! أنت ابن التراب، ومأكول التراب غداً، اقصر فإنك مأكول.

روى أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي بسند حسن (أن الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصق يوماً على كفه، ووضع أصبعه عليها وقال الحبيب: قال الله تعالى: يا بن آدم! أنى تعجزني وقد خلقت من مثل هذه؟!) {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:٥-٦] وهو المني {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:٧-٨] فأصلك من التراب، وفصلك من النطفة، أصلك يوطأ بالأقدام، وفصلك تطهر منه الأبدان! ولا يمكن أن نقف مع كل حكمة من حكم التشريع، وإنما الإسلام استسلام وإذعان لأمر الله جل وعلا وأمر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو وقفنا مع حكم التشريعات والتكليفات لطالت بنا الوقفة، لماذا فرض الله علينا الظهر أربعاً ولم يفرضها خمساً أو عشراً؟ إلى آخره، فيجب عليك أن تذعن وأن تستسلم لأمر الله، فإن الإسلام استسلام وإذعان لأمر الله وأمر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

فلا نريد كلام من يقول: إنما شرعت الصلاة لأنها رياضة، وهي مفيدة للعمود الفقري.

إلخ، ولكن لا مانع أن نستأنس بمثل هذا، لكن لا نستدل به، ففرق بين الاستدلال والاستئناس.

مر أحد السلف على رجل يلبس جبة من الخز -أي: من الحرير- وهو يتبختر فيها، فاقترب منه الرجل الصالح وقال: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله، قال: ألا تعرف من أنا؟ قال له: أعرفك والله! فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة.

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:٦-٨] ، فإذا منّ الله عليك بمنصب فتواضع لله، وإذا أكرمك بكرسي فتواضع لله، والله العظيم لو دام الكرسي لغيرك ما وصل إليك! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجاء منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فلا تبقى إلا السمعة الطيبة والكلمة الطيبة، فيقولون: فلان رحمه الله رحمة واسعة، فيسر لييسر الله عليك، (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) ، (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) والله العظيم! لما أقف مع هذا الحديث يكاد شعر رأسي أن يقف! أفرج عن أخي مسلم كربة من كرب الدنيا، مثلاً: جاء رجل يريد مائة جنيه أو خمسين جنيه، أو جاء يريد مصلحة فاقضها له، فرج عنه الكربة البسيطة ليفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة، أعلمت كرب يوم القيامة؟! كربة الميزان كربة الصراط كرب

<<  <  ج: ص:  >  >>