للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[النظر في أحوال أهل البلاء يجلب الشكر]

قمت بزيارة لمستشفى الأمراض العقلية في حلوان، وعملت محاضرة في المعادي، وحضرها جمع كبير قرابة خمسين ألفاً، فطلب الإخوة المنظمون للمحاضرة أن نستغل هذا الجمع المبارك لنجمع قليلاً من المال لصالح مرضى الأمراض العقلية في مستشفى الأمراض العقلية، فقلت: والله فكرة طيبة، وتكلمت وجمع الإخوة مبلغاً كبيراً جداً، بل وأسجل لكم الآن أني والله -لا أقولها مبالغة- ما رأيت أطيب ولا أنقى من أهل مصر في الغالب، فرأيت مشهداً يثلج الصدور، فبفضل الله عز وجل جمع الإخوة مبلغاً طيباً، والأعجب منه أنني رأيت مع الإخوة منديلاً كبيراً ملأه الأخوات ذهباً، التي خلعت العقد، والتي خلعت الأسورة، والتي خلعت الخاتم، والتي خلعت الحلق من الأذن، وجاءنا منديل مليء بالذهب بفضل الله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهل مصر طيبون؛ لأن الذي دفع هو في أمس الحاجة إلى ما دفع، وهنا العظمة، أن تنفق من سعة ومن عطاء فهذا خير لكن أن تنفق من قلة ومن ضيق هذه عظمة، هذه العظمة بأسرها وبعينها، حتى وإن كان المبلغ قليلاً بالنسبة لما يدفع من مبالغ كبيرة طائلة من أماكن أخرى، والمثل الشعبي عندنا يقول: (ما بتهونش إلا على الفقير) ، وهذا في الغالب إلا من رحم الله سبحانه وتعالى من الأغنياء.

ثم ذهبت مع الإخوة لزيارة عنابر المستشفى، والله -يا إخواني- حينما دخلت أول عنبر للأخوات بكيت بكاءً مريراً وكأني لم أبك من قبل، ولم أستطع أن أكمل معهم الزيارة، وقلت: من أراد أن يتعرف على فضل الله عليه وعلى نعم الله عليه فليأت إلى هذا المكان ليسجد لربه حمداً وشكراً أن منَّ عليه بنعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان.

والله العظيم إن نعمة العقل نعمة عظيمة، من منا فكر فيها؟! أنا أقول عن نفسي: والله ما فكرت في هذه النعمة إلا بعدما رأيت أولئك الذين سلبوها، والله ما أحسست بها إلا يومها، ومن يومها وأنا أسأل الله جل وعلا أن يثبت علينا نعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان، منَّ الله عليك بلسان ذاكر، وبقلب شاكر، وبجسد على البلاء صابر، وبجسد تتحرك به {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:٣٤] .

كان بعض السلف إذا دخل الخلاء على قدميه وقضى حاجته، خرج حامداً شاكراً لمولاه، ووضع يده على بطنه ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا لها من نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس! فإن من الناس من لا يقضي حاجته إلا عن طريق زوجته، أو عن طريق أمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، إنها مسألة في غاية الحرج، حتى مع أقرب الناس إليه مع زوجته يحس بحرج شديد؛ لأنها هي التي تساعده على هذه المسألة، أما أنا وأنت فإننا ندخل ونخرج، ومن منا فكر في هذه النعمة العظيمة؟! إنها نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس.

خرج ملك من الملوك في رحلة صيد، ونفد عليه الماء؛ فطلب من خادمه ابن السماك ماء بارداً، فأحضر له خادمه ابن السماك كوباً من الماء البارد، وقبل أن يشرب قال ابن السماك لسيده: أستحلفك بالله يا سيدي! لو منع منك هذا الكوب فبكم تشتريه الآن؟ قال: بنصف ملكي.

قال: أستحلفك بالله! لو حبس فيك فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بملكي كله.

فبكى ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء! اعرف فضل الله عليك، تذكر نعم الله عليك، ولا تستغلها في معصية الله، إن منّ الله عليك بالنعم فتواضع لربك، واخفض جناح الذل لخلق الله؛ ليحفظ الله عليك النعمة، واحمد الله واشكره على هذه النعمة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] .

الآن نسأل كثيراً من أهالينا وأحبابنا عن معيشتهم، ويكون البيت مليئاً بالخيرات، والثلاجة تبرد الطعام والشراب، والمروحة شغالة، والتلفزيون قابع على الصدور في وسط الصالة؛ فيجيب الواحد منهم قائلاً: هي عيشة والسلام، والله الحال غم.

نعوذ بالله! احمدوا الله، كانوا في الزمان الماضي يقولون: ما أحد يموت من الجوع، أما في هذا الزمان فهناك الآلاف يموتون من الجوع، كما حدث في الصومال والبوسنة وكشمير والفلبين وطاجاكستان وتركستان، أما أنت فإنك تأكل وتشرب وتعيش آمناً، فهذه نعمة عظيمة، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:٣٤] فكفر النعمة سبب من أسباب زوالها، فإذا كفرت بالنعمة وأنكرت فضل الله عليك فاعلم بأن هذا سبب خطير من أسباب زوال النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>