للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[محمد صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول والقدوة المثلى]

أيها الحبيب! أقول: إن التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، ولذا لما علم الله جل وعلا أن المنهج التربوي لا يمكن أن يتحول في دنيا الناس إلى واقع عملي إلا بالقدوة، بعث الله القدوة الطاهرة، والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وعلى وآله وسلم، فأدبه ربه وزكاه في كل شيء، ويحلو لي أن أكرر هذه التزكية في كل زمان ومكان: زكاه ربه في عقله فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:٢] .

وزكاه ربه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] .

وزكاه في بصره فقال سبحانه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:١٧] .

وزكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:١] .

وزكاه سبحانه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:٤] .

وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:٢] .

وزكاه في حلمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] .

وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:٥] .

وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:٣] .

وزكاه كله وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] .

صلى الله عليه وآله وسلم، أعظم قدوة يا إخوان! نريد أن نأخذ القدوة هذه مثلاً أعلى، في وقت قدم فيه الفارغون والتافهون، والساقطون والراقصون ليكونوا القدوة والمثال، ساقط داعر يقدم للشعب ولأبناء الأمة على أنه قدوة، وعلى أنه مثل يقتدى به، اسأل اليوم كثيراً من شباب الأمة، ماذا تعرف عن محمد بن مسلمة؟ ماذا تعرف عن معاذ بن جبل؟ ماذا تعرف عن خالد بن الوليد؟ ماذا تعرف عن عادل إمام الكلب؟ سبحان الله! قدم الساقطون والفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، وأخر الأطهار الأبرار الأخيار، السادة القادة، أهل العظمة البشرية بكل معانيها وصورها، أخر هؤلاء وحذف تاريخهم حتى لا يشب الجيل على سير هؤلاء الأطهار، وإنما ليشب الجيل على سير هؤلاء الأوباش الأقزام وإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذا يلقي عبئاً كبيراً على الدعاة بصفة خاصة وعلى الآباء بصفة عامة، لا تكتف بأن يكون ابنك داخل مدرسة، أنت اطمئن على المنهج، اطمئن على عقيدة ولدك، اطمئن على فكر ولدك، اطمئن على سلامة منهجه، لا تتكل على هذا، وإذا كنت لا تجيد هذا الاطمئنان فخذ ولدك إلى أهل العلم والفضل إلى أهل الخير الذين يصححون المسار والطريق، ويصححون المنهج ويزيلون عنه الشوائب والشبهات والشكوك.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وارفعوا رءوسكم لتناطح كواكب الجوزاء، وأعلنوها للدنيا وقولوا: قدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، رجل وشخصية جمع الله جل وعلا فيها شخصيات كثيرة في آن واحد، فهو رسول الله، ورحم الله من قال وغفر له: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم بشر تجمعت فيه شخصيات متخصصة متجمعة في آن واحد، فهو رسول يتلقى الوحي من الله، ليربط الأرض بالسماء في أعظم رباط، وهو رجل سياسة من الطراز الأول يبني أمة من الفتات المتناثر، فإذا بها بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً.

أقول العبارة مرة ثانية: رجل سياسة من الطراز الأول، يبني دولة وأمة من الفتات المتناثر، فإذا هي بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً.

وهو رجل حرب من الطراز الأول، يقود الجيوش، ويضع الخطط، ويقف في غرفة العمليات ليوجه الجند والصف، بل إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، كان الحبيب في مقدمة الصفوف يعلن بأعلى صوته للجمع ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) .

وأب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات، من نفقات الوقت من نفقات الجهد من نفقات الشعور من نفقات الفكر من نفقات العقل من نفقات التربية من نفقات التوجيه، فضلاً عن نفقات المادة، فقام الحبيب بهذا الدور خير قيام.

وهو رجل إنساني من الطراز الأول، تشغله هموم الناس، وتملأ نفسه مشاعرهم وآلامهم وأحزانهم، فيمنحهم من وقته وفكره وعقله وجهده، بل ومن روحه، بل ومن ماله، بل ومن تربيته، بل ومن توجيهه كرجل إنساني القلب قد شغلته في هذه الدنيا هموم الناس فحسب.

وهو رجل عابد خاشع خاضع أواب، كرجل تفرغ للعبادة فقط لا يشغله هم من هموم الدنيا، ولا تؤثر فيه شهوة من شهواتها أو نزوة من نزواتها.

هذه الشخصيات كلها في رسول الله، فضلاً عن أنه كان صاحب دعوة أخذت عقله ووقته وجهده وروحه وفكره بل ودمه، ومع هذا كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في كل مجال وميدان من هذه الميادين المتفرقة.

نعم أيها الأحباب! أمر النبي أصحابه بالعبادة فكان القدوة، تورمت قدماه من العبادة، فلا تقل لابنك: صل، وأنت جالس في البيت، ولا تقل لابنك: لا تدخن، وأنت تدخن في وجهه كل ليلة، أين القدوة؟ حتى لو امتثل الولد سيمتثل بخلل، وبدون اتزان وتوافق أبداً، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعبادة فتورمت قدماه من العبادة وقيل له: (يا رسول الله! أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال الحبيب: أفلا أكون عبداً شكوراً) .

فهذا هو القدوة يا إخوان! أمرهم بالجود والإنفاق والبذل والعطاء فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سئل على شيء في الإسلام إلا وأعطاه، ولقد جاءه يوماً رجل فسأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فانطلق الرجل يسوق الغنم كلها بين يديه -وعاد إلى قومه ليقرر هذه الحقيقة الكبرى وليصرخ في قومه ويقول-: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) .

أيها الأحبة! أقول: إن القدوة العملية التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بل وللدنيا كلها، يجب علينا أن نقف أمامها طويلاً طويلاً، لنحول فعل النبي صلى الله عليه وسلم الآن إلى واقع، لنقدم القدوة عملية واقعية سلوكية مرة أخرى كما فعل الحبيب مع أصحابه، بل ومع أمته.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالعبادة فكان سيد العباد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالإنفاق فكان أجود بالخير من الريح المرسلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم بالحلم والرحمة والتواضع فكان سيد هذه الصفات، واحتل ذروة سنامها.

نعم أيها الأحباب! ولا أريد أن أتوقف مع كل صفة وإلا لطالت وقفتنا.

أقول: أيها الحبيب الكريم! يكفي أن تقف مع هذا المشهد الحي، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن، وابن سعد في الطبقات وهو حديث صحيح: (أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فارتعدت فرائصه واضطربت جوارحه -فماذا قال له الحبيب؟ - فقال له: هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في مكة) انظروا التواضع يا إخوان! ونحن الآن في أمس الحاجة -يا طلاب العلم- إلى أن نتواضع، تاج الداعية التواضع؛ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل التواضع.

تاج طالب العلم التواضع، إذا من الله عليك بالعلم فتواضع ليرفعك الله، ليزيدك الله جل وعلا، فمن تواضع لله رفعه، لا تتعال على إخوانك وأحبابك وعلى طلابك، ولا تقل بلسان الحال: أنا العالم وأنتم الجاهلون، وأنا الطائع وأنتم المذنبون، وأنا الموفق وأنتم المقصرون، لا يا أخي! تذكر فضل الله عليك ونعمة الله عليك، فورب الكعبة لو تخلى الله عنك برحمته طرفة عين لهلكت، من أنت حتى تغتر بعملك؟ من أنت حتى تغتر بمالك؟ من أنت حتى تغتر بجاهك؟ أنت لا شيء بدون ستر الله، وبدون فضل الله، وبدون رحمة الله: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] ، كنت ضالاً فهداك، وكنت وضيعاً فرفعك، وكنت فقيراً فأغناك، وكنت ذليلاً فأعزك، فاعرف فضل الله عليك، ووالله لو تخلى الله عنك طرفة عين لكنت بمثابة الشاة التي احتوشتها الذئاب من كل ناحية: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧] .

وهكذا أيها الأحباب! ما أمرهم النبي بأمر إلا وكان أول الممتثلين له، وما نهاهم عن شيء إلا وكان أول المجتنبين له، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد.

ومن هنا تعلقت به قلوب أصحابه، هذا أعظم سبب لتعلق القلوب بالقدوة، أن يرى الناس بالقدوة النموذج الحي لكل ما يقول.

ومن هنا تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال وفعل، وقدم القدوة العملية المشرقة في أروع وأجل صورها! وأختم بعبارة مهمة جداً، وأرجو الله أن تحفر في القلوب قبل العقول، وأقول: قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما قدم الإسلام هذه القدوة فإنه ما قدمها لجيل الصحابة فحسب، وإنما قدم الإسلام هذه القدوة لتظل خالدة على مر الأجيال والقرون، ولم يقدمها الإسلام لتكون قدوة باهتة ليتعامل الناس معها تعاملاً نظرياً بحتاً، وإنما ليحول الناس هذه القدوة مرة أخرى في حياتهم إلى منهج حياة، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١] .

فيا أيها المسلم! يا أيها الأستاذ! يا أيها المربي! يا أيها الأب الكريم! يا أيتها الأم الفاضلة! يا من حملك الله أمانة التربية، وأمانة التوجيه، وأمانة ال

<<  <  ج: ص:  >  >>