للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النعم والمتع مباحات باعتبارها نعمًا ومتعا، وباعتبارها جزئيات معينة يختار منها الإنسان ما شاء، ويدع منها ما شاء، وكيف شاء. ولكنها، بصفتها العامة -أو بصفتها الكلية- تعتبر خادمة لأصل ضروري، هو إقامة الحياة. فهي من هذه الناحية، مأمول بها، فخرجت عن الإباحة إلى الطلب.

وقد يصير المباح مكروهًا مطلوب الترك: إذا صار فيه ضرر على أصل من الأصول الثلاثة. كالطلاق لغير موجب، فالطلاق مباح ومشروع لما يناسبه من الحالات. فإذا صار يستعمل لغير ما شرع له، فقد صار مضرا بعدة ضروريات وحاجيات. ومن هنا صار مبغضًا. وهكذا الشأن -أيضًا- في اللهو واللعب والراحة، هي أمور مباحة، إذا لم يكن شيء منها محظورًا بعينه. ولكنها إذا كثرت، صارت مذمومة، وقد كان العلماء والسلف يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد.

وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهو المباح الباقي على أصل الإباحة. وقد أدى هذا النظر بالشاطبي إلى أن يقسم المباح تقسيمًا رباعيًا، أي أنه -رغم إباحته الأصلية- قد تعتريه الأحكام الأربعة الأخرى. وذلك بحسب الجزئية أو الكلية، أي بحسب الحالات الجزئية المعينة لاستعمال المباحات في الحياة اليومية للأفراد، أو بحسب النظر إلى هذه المباحات في عمومها وشمولها، للفرد والمجتمع، ودورها العام في ذلك، ويتضح هذا -أكثر- من خلال تقسيمه وتمثله للأقسام الأربعة التي قد يؤول إليها المباح، وهي:

١- مباح بالجزء، مندوب بالكل وذلك كالتمتع بالطيبات من المآكل والمشارب والملابس، فيما زاد عن حد الضرورة١. فالتوسع في هذه النعم والتمتع بها أمر مباح، بحسب الجزئية؛ أي هو في حق الأفراد، وفي مختلف الحالات، وبالنسبة لنماذج معينة من هذه النعم، يمكن أن يفعل وألا يفعل. لا حرج في هذا ولا ذاك. ولكنه بالنسبة لمجموع الناس، في مجموع حياتهم، أمر مطلوب، مرغوب لهم فعله. فهو بحسب الكلية مندوب، وبحسب الجزئية مباح.


١ لأن حد الضرورة من ذلك، غير داخل في موضوعنا، لأنه واجب أصلًا، وليس من المباح.

<<  <   >  >>