للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالاشتغال بالمباحات، والتمتع بها، عمل مباح في أصله. فإذا ألهى صاحبه عن واجب، أو أوقعه في محرم، تغير حكمه تبعًا لهذا الطارئ.

ولكن الطوارئ التي تدخل على المباح، كما تكون مذمومة، فتصيره مذمومًا، كذلك قد تكون محمودة فتصيره محمودًا. فليس ترجيح الترك بأولى من ترجيح الفعل مطلقًا. فتكثير من المباحات تكون عونًا لصاحبها على فعل الواجبات، واجتنبات المحرمات، والاستكثار من الخيرات. بل هذا هو الأصل فيها. وفي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح١ وأيضًا: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم"٢.

وأما أن ترك المباحات، هو طريق الزهاد والصالحين، فغير مسلم:

من جهة، لأن حقيقة الزهد ترك ما طلب تركه. والمباح المحض ليس من هذا القبيل.

ومن جهة أخرى، فإن ترك بعض المباحات، إذا اعتبرناه زهدًا، فلأجل ما في ذلك من قصد حسن، واشتغال بما هو أولى فقد آل إلى اتخاذه وسيلة فخرج عن دائرة الإباحة: "فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك. ولا نزاع في هذا"٣.

وهذا يجرنا إلى جانب آخر من مباحث المباح -فيه توضيح وتفصيل لما سبق- وهو: "أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة"٤.

فقد يصير محبوبًا ومطلوبًا فعله: إذا كان "خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي٥ كالتمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس، ونحو هذا: فهذه


١ قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء" رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني. بسند جيد "حاشية عبد الله دراز، الموافقات ١/ ١١٤".
٢ رواه مسلم.
٣ الموافقات: ١/ ١٢٣.
٤ الموافقات: ١/ ١٢٨.
٥ الموافقات: ١/ ١٢٨.

<<  <   >  >>