هذا هي: التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم في الدنيا والآخرة. وللمصالح والمفاسد -كما تحددها مقاصد الشريعة- مفهوم خاص له مميزاته الخاصة. فالمصالح غير الأهواء الجامحة والنزوات العابرة، بل المصالح في الإسلام أبعد وأرقى من المفاهيم السطحية القاصرة السائدة. ومن هذه المنطلقات تحدد نظرية المقاصد سلم المصالح والمفاسد، الضرورية منها، ثم الحاجية والتكميلية، ثم تتشعب هذه النظرية لتلقي بظلالها الوارفة على جميع قضايا الشريعة وجزئياتها على ما سنرى، من خلال ما كتبه الشاطبي رحمه الله، ومن خلال التعقيبات والإضافات التي اقتضاها توضيح نظرية الشاطبي.
هذه هي النظرية التي أفنى الشاطبي عمره، في رسم هيكلها، وإبراز معالمها، والدفاع عن أهميتها وضرورة العمل بمقتضاها. فكان رحمه الله خير من خاض لججها، وخير من قدم لنا دررها، وجنى لنا ثمرها. ومن هنا كان لا بد من البدء بالشاطبي، وبما قاله الشاطبي. ولم يكن من اللائق إنجاز بحث عن مقاصد الشريعة دون إنجاز بحث مفصل ودراسة معمقة لما انتهى إليه الشاطبي. ذلك أن البحث في مقاصد الشريعة إلى اليوم لما يتجاوز، أو لما يصل إلى ما وصل إليه الشاطبي. فأرجو أن يكون هذا البحث خطوة مفيدة في هذا الطريق، طريق الاستيعاب الكامل لنظرية المقاصد عند الشاطبي، ومواصلة السير في دراسة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلًا.
وقبل الدخول في عرض نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ودراسة بعضها الآخر، قبل ذلك قدمت بابا تمهيديا -ستتضح فائدته وضرورته- عرضت فيه لفكرة المقاصد عند الأصوليين، وفكرة المقاصد في المذهب المالكي. كما وضعت بين يدي نظرية الشاطبي فصلا عن الشاطبي نفسه، وهو أمر لا بد منه، خاصة وأن ما كتب وصدر عن الشاطبي حتى الآن ما يزال قليلًا وهزيلًا، بالرغم من التقدير الكبير والاهتمام البالغ، اللذين أصبح الشاطبي يحظى بهما.