للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال: "بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله، أو قبحه. فيدركه العقل جملة. ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلًا أو ظلمًا، فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد. وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه.

فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبيينه. وما أدركه العقل الصريح من ذلك، تأتي الشرائع بتقريره. وما كان حسنًا في وقت قبيحًا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه. وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول: مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك. فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة, وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص، مفسدة لغيره. والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه. وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل، فلا تعلم إلا بالشرع: كالجهاد والقتل في الله. ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة. هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون١ ما تدركه من ذلك. فالحاجة إلى الرسل ضرورية. بل هي فوق كل حاجة. فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين"٢.

وقد تعرض الشاطبي مرارًا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، وكثيرًا ما يستشهد عليه بأهل الفترات الذين وقعوا في كثير من


١ أي: بأقل مما.
٢ مفتاح دار السعادة، ٢/ ١١٧.

<<  <   >  >>