للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للنبوات، أن يدعي أنه لا ضرورة للرسالة والشريعة، لأن العقل يعني عنها. وقد وجد فعل من قالوا بهذا، كالبراهمة، وبعض الفلاسفة وغيرهم. فمنهم من زعم أن لا حاجة إلى شريعة وشارع غير العقل، ومنهم من رأى أن ذلك يحتاج إليه العامة البلداء دون الخاصة العقلاء١.

وبهذا، فإن التسليم بتحسين العقل وتقبيحه، يفتح فتنة لا تنتهي. أو "تنتهي" بنبذ الدين والانسلاخ عن شريعته.

ورغم أن لهذا التخوف قدرًا من الواقعية، فإنه لا ينبغي أن يحملنا على التنكر للحقائق. فدفع الباطل لا يكون بالباطل. والدفاع عن الحق لا يكون بإنكار الحق. فإن هذا الأسلوب لا يؤدي إلا إلى إضعاف الحق وتقوية الباطل.

أما أن القول بتحسين العقل وتقبيحه يفضي إلى القول بإمكان الاستغناء عن الدين وشريعته، فإبطاله من عدة وجوه:

١- أن العقل نفسه يفضي بصاحبه إلى التصديق والإيمان بالأنبياء وبما جاءوا به، وأنه الحق الذي لا مرية فيه. هذه هي القاعدة الصلبة لوجوب اتباع الأنبياء وشريعتهم. أعني: الاقتناع والتيقن بصدق النبي وبكونه مرسلًا من رب العالمين. فلا يبقى أمام العاقل إلا أن يسلم وينقاد للأدلة والبراهين القاطعة بصدق الرسول.

٢- أن العقل نفسه، يصل إلى الاقتناع بما حوته الشريعة من حفظ المصالح على أكمل وجه، وحتى إذا لم يدرك ذلك على وجه التفصيل، فإنه يصل إلى إدراكه على وجه الإجمال. ثم إننا نرى أن الناظر والدارس للشريعة، كلما ازداد تعمقًا وتفقهًا فيها، كلما ازداد إدراكًا لمحاسنها وكمال حفظها للمصالح، جملة وتفصيلًا.

٣- أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد، لا يعني أن إدراكه تام مطلق. بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ. وقد بين ابن القيم هذه النقطة


١ انظر مفتاح دار السعادة، ٢/ ٥٥/ ٥٧.

<<  <   >  >>