للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض، فالأكثر منها غير معلوم. وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر في المصالح، وفي أي مرتبة تقع"١.

ويمكن أن أمثل لهذا بنشر العلم وبثه وتعليمه للناس؛ فقد تواترت النصوص الكثيرة على طلب ذلك والحث عليه، ترغيبًا وترهيبًا. فيؤخذ من مجموعها- -وبصفة عامة- أن من واجب أهل العلم أن يبثوا علمهم ويعلموه للمحتاجين إليه. ولكن النظر المصلحي اقتضى أن تعليم الناس قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. وكما يكون واجبًا، قد يكون مندوبًا. وذلك حسب نوع العلم ودرجته، وحسب المتعلم ومدى حاجته. بل ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحاشى الإكثار بالتعليم على أصحابه. ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود كان يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها في الأيام مخافة السآمة علينا.

وأكثر من هذا، فقد تكون هناك أمور من العلم تقتضي المصلحة عدم بثها بين جميع الناس في ظرف ما. وقد امتنع عدد من الصحابة -بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم- عن التحديث بما سمعوه منه، من أن من مات لا يشرك بالله شيئًا حرم الله عليه النار، وذلك حتى لا يتخلى الناس عن العمل. ولم يحدثوا بذلك إلا عند احتضارهم، خشية ضياع الحديث نهائيا. وهذا مروي في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت، وعن معاذ بن جبل، وعن أبي هريرة أن عمر هو الذي منعه من إخبار الناس، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: "وفيه -أي في الحديث- جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها، للمصلحة أو خوف المفسدة"٢.

ويروى عن الإمام مالك بن أنس أنه كان يكره الكلام في المسائل التي لا ينبني عليها عمل، ويحكي كراهية ذلك عمن تقدم٣.


١ الموافقات، ٣/ ١٥٣.
٢ شرح صحيح مسلم، ١/ ٢٤٠.
٣ الموافقات، ١/ ٥٠ و ٤/ ١٩١، انظر نهاية الجزء الأول من ترتيب المدارك للقاضي عياض.

<<  <   >  >>