وقد يعذر الجاهل بالشريعة، أو السطحي المتعجل في التعرف على أحكامها، ومدى ما بينها من تكامل وانسجام، قد يعذر إذا بدت له النصوص مختلفة متعارضة، فذلك مبلغه من العلم والفهم. ويزيد في "عذره" أن النصوص كثيرة جدا، متنوعة جدا، تعالج قضايا وأحوالًا، وتنظم مجالات متعددة. وتحتاج كما رأينا إلى تدبر وتعقل، وإلى نظر مصلحي خبير. وإلا تعارضت على الناظر فيها، وتضاربت أحكامها ومقتضياتها.
لكن الذي لا يعذر فيه عاقل، هو الزعم بأن رعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه!!
ولست أدري إن كان قد مر على الطوفي يوم واحد لم تختلف فيه مصالحه مع مصالح غيره. بل مصالحه هو نفسه فيما بينها. ولست أدري هل بقيت مصالحه في آخر حياته، على ما كانت عليه في شبابه وأول حياته؟ أو على الأقل، هل بقيت نظرته إليها هي هي؟
ولست أنكر أن هناك مصالح حقيقية ثابتة، أو تتسم بقدر كبير من الثبات، هي حجر الأساس في الحياة البشرية، كتلك التي تمثلها أحكام العبادات، وأحكام الحدود والجنايات "الدماء"، وككثير من أحكام الأسرة، وغيرها.
ولكن أيضًا، لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة -ومفاسد- تتأثر باختلاف الأحوال وتغير الظروف. فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها، ويتغير نفعها أو ضررها، مما يستدعي نظرًا جديدًا، وتقديرًا مناسبًا، ووسائل مناسبة. وكل هذا يؤثر على الأحكام تاثيرًا ما، ينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره، بلا إفراط ولا تفريط. وبهذا يغلق الباب على توهم عجز النصوص أو اختلافها، أو معارضتها للمصالح.
ومن أبرز ما يحتاج إلى النظر والتقدير المتجدد، جانبان من جوانب الحياة: أحدهما في حفظ المصالح. وهو جانب المعاملات المنبنية على الأعراف. والثاني في درء المفاسد، وهو باب التعازير.