وهذا الضرب من المصالح، ليس بالقليل ولا بالهين. بل يكفي أن ما يعرف باسم "السياسة الشرعية" يقوم أساسا على حفظ المصالح المرسلة. وبهذا -وحده- يتجلى أن المصالح المرسلة تتسع دائرتها يومًا بعد يوم. فهي تتزايد بتزايد حجم الأمة، وبتزايد حاجاتها، وتتزايد بتزايد وظائف الدولة وتضخمها.
وهكذا أصبحت المصالح المرسلة تمس كميان الأمة ومصيرها، وتؤثر على أرزاقها وكرامتها، وعلى انحطاطها أو تقدمها.
فهل يعقل أو يقبل أن يظل تدبير هذه المصالح الكبرى بمنأى عن مقاصد الشريعة وبمنأى عن موازين الشريعة وبمنأى عن علماء الشريعة؟
وهل يعقل أو يقبل أن يظل علماء الشريعة، بمقاصدهم وقواعدهم وآرائهم بمنأى عن هذا المجال الحيوي المصيري بالنسبة للأمة وشريعتها؟
هل يقعل أو يقبل أن يظلوا عاجزين، أو متهيبين أو مهمشين، عن تقرير مصير الأمة ومسارها، بل حتى عن مجرد المشاركة فيه بنصيب؟
وهذا لن يتأتي إلا إذا كان علماء الشريعة -إلى جانب علمهم بالشريعة وأحكامها المنصوصة- على قدر كبير من الوعي والتقدير للمصالح والمفاسد، وكانوا قادرين على وضع كل مصلحة في مكانها ومنزلتها، مهتدين بهدي الشريعة ومقاصدها. وهذا هو الطريق الصحيح لحفظ مصالح الأمة. يقول ابن عبد السلام:"ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"١.
فمن خلال الإحاطة بأحكام الشريعة ومقاصدها، ومن خلال الخبرة بأحوال الأمة ومتطلباتها، ومن خلال النظر والتقدير العقلي، يتم تعيين المصالح المرسلة، ووضعها في مراتبها اللائقة بها.