للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالصفة الحقيقية التي تؤهل صاحبها لأن ينوب عن غيره، ويتكلم باسمه، هي أن يكون عارفًا خبيرًا بمقاصده على الجملة وعلى التفصيل. وأما ما عدا ذلك فأمور مساعدة. فالمجتهد، الذي يحكم ويفتي باسم الشارع، لا بد وأن يكون -أول ما يكون- عالمًا تمام العلم بمقاصده العامة، وأن يكون عالمًا بمقصده -أو مقاصده- في المسألة التي يجتهد فيها ويحكم عليها.

وهكذا ارتفع أبو إسحاق بمنزلة المقاصد في الاجتهاد، إلى أعلى المنازل. فلم تبق عبارة عن كلمات عابرة غامضة، تقال -أو لا تقال- في أواخر لائحة طويلة من الشروط المطلوبة في المجتهد، لا يكاد يلتفت إليها الدارس، فضلًا عن القاري العابر، حتى رأينا الشيخ دراز -وهو الأصولي المتمرس- قد غفل عنها ونفاها.

وقد عمل الشاطبي على تأكيد وترسيخ أهمية المقاصد وضرورتها للمجتهد في مناسبات عدة، وبأساليب شتى. حتى إنه نبه على أن العالم المجتهد، وإن كان عالمًا بالمقاصد، فإنه إذا غفل عنها زل في اجتهاده. قال: "فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"١.

وإذا كان هذا شأن المجتهد الخبير بمقاصد الشرع، فما بالك بمن قصروا عن هذه المرتبة! ولهذا تجده كلما حمل على المنحرفين في فهم الدين وشريعته، وضع إصبعه على الجهل، بمقاصد الشريعة، أو نص على أنه السبب، أو أحد الأسباب على الأقل.

فمن هؤلاء ناس يرون أنفسهم أهلًا للاجتهاد في الدين، فيتجرءون على أحكامه وشريعته، حتى لتجد أحدهم "آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها. حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه، من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ويعين على هذا: الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ مرتبة الاجتهاد"٢.


١ الموافقات، ٤/ ١٧٠.
٢ الموافقات، ٤/ ١٧٤-١٧٥.

<<  <   >  >>