للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا المسلك الاجتهادي عريق في فقه الصحابة، وفقه الأئمة، وخاصة عند الإمامين أبي حنيفة ومالك. وقد عرض الشاطبي -في المسألة السابق ذكرها- أمثلة كثيرة لذلك، فانظرها هناك.

وفيما يخص أبا حنيفة يقول الحافظ ابن عبد البر: "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرًا من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده، وسماه شاذا"١.

فهذا لون من ألوان النظر في الجزئيات من خلال ما تقرر في الكليات. وعلى هذا المسلم نفسه يتأتى -بل يتحتم- النظر في الأدلة الجزئية والأحكام الخاصة، من خلال كليات الشريعة ومقاصدها العامة.

ويمكن تمثيل هذا المنحى الاجتهادي بمسألتين، هما: تقييد التصرف في الحقوق، وتقييد إلزامية العقود؛ وأعني الحقوق المشروعة الثابتة، والعقود الصحيحة المستوفية لشروطها الشكلية.

قد ينظر المجتهد "القاضي أو غيره" في المسألة وفي دليلها الخاص، فيجد أن الحق ثابت لصاحبه، وله حق التصرف فيه كيف شاء، لأنه يتصرف في حقه وملكه واختصاصه. ولكن هذا التصرف إذا عرض على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة، قد يظهر أنه مخالف لها، في بعض الحالات على الأقل.

فههنا -وبمقتضى الجمع في النظر بين الكليات والجزئيات- يتعين تقييد التصرف في الحقوق بما لا يخل بالكليات والمقاصد العامة٢.

ومن هذا الباب: ما يسمى في اصطلاح القانونيين "منع التعسف في استعمال الحق" وهو أصل أصيل في الإسلام والفقه الإسلامي.


١ الانتقاء: ١٤٩.
٢ انظر -على سبيل المثال- بعض تلك المقاصد التي تسيغ تقييد التصرف في الحقوق، عند الدكتور فتحي الدريني، في كتابه: الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده وخاصة الفصل الثامن.

<<  <   >  >>