فمن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كثير من البيوع، لما يكتنفها من جهالة ومخاطرة، ولما تفضي إليه من غرر وغبن، في حق أحد المتبايعين. وهذا يقتضي الوضوح التام، والتحديد المضبوط، في المبيعات وصفاتها، وفي الأثمان، والآجال، وكل هذا معلل، ومصلحته واضحة.
ولكن هناك حالات كثيرة جدا، يتعذر فيها -أو يعسر جدا- توفير هذه الشروط والالتزام بها، فتصبح مصلحة المتبايعين -التي هي المقصودة بتلك الشروط- تستدعي التساهل فيها، والتغاضي عن بعضها، مما هو متعذر أو عسير.
وههنا -بصفة عامة- اتجاهان متباينان: اتجاه يميل إلى هذا التساهل والتغاضي، رعاية للمصلحة ودفعا للحرج والضرر، ويمثله الفقه المالكي، فالحنفي. واتجاه يميل إلى المحافظة على الشروط الأصلية للبيوع، والتمسك بشكلياتها مهما يكن من أمر. ويمثله الفقه الشافعي:
"ومن هذا الباب: أن مالكًا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر، واللفت، وبيع المقاثي جملة. كما يجوز هو والجمهور، بيع الباقلاء ونحوه في قشره.
ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا التاريخ. ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا. وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه. وكل واحد من هذين يبيح ذلك. فكيف إذا اجتمعا"١.
فهذا الاتجاه الفقهي إذن، يستند إلى كون الغرر يسيرا، وإلى كون المصلحة تدعو إليه. ومعنى هذا أن النهي عن الغرر محمول -من جهة- على الغرر الكثير، ومن جهة أخرى، على ألا يكون فيه ضرر يفوق الضرر المقصود بالنهي.
وفي معنى الغرر المنهي عنه في الأحاديث، يقول الحافظ ابن عبد البر "المالكي": "وجملة معنى الغرر: أنه كل ما يتبايع بها المتبايعان مما يدخله الخطر