إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا"، وتقدم لك هذا الأثر قريبا.
من هذا كله يظهر لك جليا ما كان عليه أئمة الحديث، في هذا العصر من بصيرة نقادة، ومعرفة تامة بالسنة متونها وأسانيدها، فتراهم غربلوا الرواة وأقصوا كثيرا منهم عن حظيرة السنة، والتمتع بشرف روايتها. كما ميزوا الأحاديث، فحديث علموا صحته، وعملوا به وحديث علموا كذبه فتركوه، وحديث تبين لهم ضعفه فلم يعتمدوا عليه وحده، وحديث اشتبه أمره فتوقفوا فيه، حتى يظهر حاله وينكشف أمره. وتراهم يأمرون بحمل جميع ما يسمعونه لينتقوا منه الصحيح، حتى أصبحوا بحق صيارفة الحديث، ونقاد الأسانيد.
وإليك جملة مما ذكره ابن عدي في كامله، تلقي لنا ضوءا على جهود هؤلاء الجهابذة في هذا العصر قال رحمه الله ما نصه:
"وأما القرن الثان فقد كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء. وضعف أكثرهم نشأ غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث. فكانوا يرسلون كثيرا ويرفعون الموقوف، وكانت لهم أغلاط، وذلك مثل أبي هارون العبدري المتوفى سنة ١٤٣هـ. ولما كان آخر عصر التابعين، وهو حدود الخمسين ومائة تكلم في التعديل، والتجريح طائفة من الأئمة فضعف الأعمش المتوفى سنة ١٢٨هـ جماعة ووثق آخرين. ونظر في الرجال شعبة المتوفى سنة ١٦٠هـ، وكان متثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة. ومثله مالك المتوفى سنة ١٧٩هـ، وممن كان في هذا العصر إذا قال: قبل قوله معمر المتوفى سنة ١٥٣، وهشام الدستوائي المتوفى سنة ١٥٤، والأوزاعي المتوفى سنة ١٥٦هـ. وسفيان الثوري المتوفى سنة ١٦١هـ.