للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال البيهقي: (لأن كسب العبد إما بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه، فالنية أحدها وأرجحها؛ لأنهما تابعان لها صحةً وفسادًا، وثوابًا وحرمانًا، ولا يتطرق إليها رياءٌ ونحوه بخلافهما، ومن ثَمَّ ورد: "نية المؤمن خيرٌ من عمله") (١) وهو ضعيفٌ لا موضوع، خلافًا لمن زعمه (٢).

ويدل لخيريَّتها خبرُ أبي يعلى: "يقول اللَّه تعالى للحفظة يوم القيامة: اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا؛ لم نحفظ ذلك عنه، ولا هو في صحفنا" (٣).

وقال الإمام الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه أيضًا: (إنه يدخل في سبعين بابًا)، ولم يُرِدْ به المبالغة، خلافًا لمن وهم فيه (٤)؛ لأن من تدبَّر مسائل النية في متفرقات الأبواب. . وجدها تزيد على ذلك؛ إذ تدخل في ربع العبادات بكماله، وكنايات العقود، والحلول، والإقرار، والأيمان، والظهار، والقذف، والأمان، والردة، وفي الهدايا، والضحايا، والنذور، والكفارات، والجهاد، وسائر القُرَب؛ كنشر العلم، وكل ما يتعاطاه الحُكَّام، بل وسائر المباحات إذا قصد بها التقوي على


(١) انظر كتاب "السنن الصغير" (١/ ١٢).
(٢) الحديث أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (١٤٨) عن سيدنا النواس بن سمعان رضي اللَّه عنه، والطبراني في " الكبير" (٦/ ١٨٥)، وأبو نعيم في "الحلية" (٣/ ٢٥٥) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه.
وفي هامش (ب): (في رواية: "نية المرء خيرٌ من عمله" وقد وقع السؤال عن معناه، وأجاب الفقيه ابن عبد السلام بجوابين [القواعد الكبرى (١/ ٣٣٣ - ٣٣٤)]: أحدهما: أنه وارد على سبب؛ وهو أنه صلى اللَّه عليه وسلم وعد بثوابٍ على حفر بئرٍ، فنوى عثمانُ رضي اللَّه تعالى عنه حفْرَه، فسبق كافرٌ بحفرها، فقال: "نية المرء خير من عمله" يعني: [نية] عثمان خيرٌ من عمله؛ يعني الكافر. ثانيهما: أن النية المجردة من المؤمن خيرٌ من عمله المجرد عن النية؛ لأنه لا ثواب على العمل إلا بنيته، بخلاف النية. وفي الجواب الأول ضعفٌ؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة، وعمل الكافر لا خير فيه ألبتة، إلا أن يقال: سماه خيرًا باعتباره في نفسه وإن لم يُثَبْ عليه؛ بدليل أنه لو أسلم. . أُثيب عليه من غير تضعيف؛ كما يدل عليه: "أسلمت على ما أسلفت من خير"). وحديث: "أسلمت على ما أسلقت من خيرٍ" أخرجه البخاري (١٤٣٦)، ومسلم (١٢٣) عن سيدنا حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه، وسيذكره الشارح (ص ٢١٤).
(٣) ذكره الإمام العيني رحمه اللَّه تعالى في "عمدة القاري" (١/ ٣٥) بلفظه، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده"، ولم يخرجه أبو يعلى بلفظه فيما بين أيدينا، وإنما أخرج نحوًا منه في حديث طويل (٣٤٢٩) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.
(٤) انظر قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه، وتفصيل المسألة في "فتح الباري" (١/ ١١).

<<  <   >  >>