للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مستأنفٌ؛ لأن الأولى من جنس مقدور العبدا؛ لجواز أن يوجد وألَّا يوجد، بخلاف الثاني؛ فإنه سبحانه وتعالى يرى الكائنات جملةً وتفصيلًا على الدوام، لا يشذُّ عن نظره شيءٌ في وقتٍ من الأوقات. اهـ

وجوابه: يعلم مما قررته في معناه من أن المطلوب به (١) استحضار أنه بين يدي الحق بمرأىً منه ومسمعٍ؛ ليكسبه ذلك غاية الكمال في عباداته، والإعراض عن عاداته، واستحضارُ ذلك مقدور للعبد ومكملٌ له فكُلِّف به، ولا يلزم من نظر اللَّه سبحانه وتعالى للعبد وأحواله أن العبد يستحضر ذلك، فظهر أنه من تتمة الجواب، وأنه ليس أمرًا مستأنفًا وإن تتابع على تلك المقالة جماعةٌ من الشُّراح.

ثم رأيت بعضهم قال: إنه تعليلٌ لما في قبله؛ فإن العبد إذا أُمِرَ بمراقبة اللَّه سبحانه وتعالى في عبادته واستحضار قربه منه حتى كأنه يراه. . شقَّ عليه ذلك، فيستعين عليه بإيمانه بأن اللَّه سبحانه وتعالى مطلع عليه لا يخفى عليه منه شيءٌ؛ ليسهل عليه الانتقال إلى ذلك المقام الأكمل، الذي هو مقام الشهود الأكبر.

ومن البعيد وَقفُ بعض الصوفية على (تراه) الثاني (٢)؛ لظنهم أن المراد: أنك إذا فنيت عن نفسك فلم ترها شيئًا. . شاهدت ربك؛ لأنها الحجاب بينك وبين شهوده، والمعنى وإن صح إلا أن لفظ الحديث لا ينطبق عليه، فتنزيله عليه جهل من قائله بقواعد العربية وأساليبها (٣).

قيل: وفي الحديث دلالةٌ على أن رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا ممكنةٌ عقلًا؛ لأن


(١) أي: بالثاني.
(٢) قوله: (ومن البعيد وقف بعض الصوفية على "تراه" الثانية) لظنهم أن فعل الشرط (لم تكن) وهي تامة لا خبر لها، و (تراه) جواب الشرط، وقوله: (فإنه يراك) تفريعٌ، والمعنى: فإن لم توجد؛ أي: لم تفرض أن نفسك موجودةٌ. . فإنك ترى ربك عز وجل، والمراد "أنك إذا فنيت عن نفسك. . . إلخ. اهـ "مدابغي"
(٣) قال الصلاح الصفدي: وغفل هذا القائل للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم. . لكان قوله: (تراه) محذوف الألف؛ لأنه يصير مجزومًا، لكونه على ما زعمه جواب الشرط، وتعقبه الدماميني بقوله: إنما تصح هذه الدعوى التي عارض بها الصفدي لو كان الجواب في هذه الصورة مما يجب جزمه، وهو ممنوع؛ فقد نصَّ الإمام جمال الدين بن مالك في "التسهيل" على أن الشرط إذا كان منفيًا بـ (لم). . جاز رفع الجواب بكثرة، وكفانا به حجة. على أن الشُّرَّاح قبلوا هذا منه ولم يتعقبوه، وعليه: فيصح قولنا: إن لم يقم زيد. . يقوم عمرو، ويتخرج عليه الحديث، فلا يكون رفع الفعل المضارع الذي هو (تراه) مانعًا من دعوى كونه جوابًا للشرط. اهـ "مدابغي"

<<  <   >  >>