للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأن العبرة إنما هو بسابق القضاء؛ إذ لا تغيير فيه ولا تبديل، ويوافقه حديث: "الشقي مَنْ شقي في بطن أمه" (١) أي: يظهر من حاله للملائكة، أو لمن شاء من خلقه ما سبق في علم اللَّه الأزلي وقضائِهِ الإلهي، الذي لا يقبل تغييرًا ولا تبديلًا؛ من سعادته، أو شقاوته، ومن رزقه، وأجله، وعمله، ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند اللَّه سبحانه وتعالى من علم حال النطفة وتقول: يا رب؛ ما الرزق؟ ما الأجل؟ قال: فيقضي ربك ما شاء؛ أي: يُظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به علمه، ونطقت به إرادته (٢)، ويكتب الملك من اللوح المحفوظ كما مر، ثم يخرج بالصحيفة؛ أي: من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال المشاهدة، فيُطلع اللَّه تعالى عليها مَنْ شاء من الملائكة الموكلين بأحواله؛ ليقوموا بما عليهم حسبما سُطِّر في صحيفته.

ولا ينافي ذلك كله خبر: "إنما الأعمال بالخواتيم" (٣) لأن ربطها بها إنما هو لكون السابقة مستورةً عنَّا، والخاتمة ظاهرة لنا، فكانت الأعمال بها بالنسبة إلى ما عندنا، واطلاعِنا في بعض الأشخاص والأحوال، وأنه ينبغي ترك الإعجاب بالعمل، والالتفات والركون إليه، وأن يعول على كرم اللَّه تعالى ورحمته، والاعتراف بمنَّته؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه. . . " الحديث (٤)، لكن ثبتت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل يتعيَّن العمل، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "اعملوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له" (٥)، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.

فينبغي التيقُّظ لهذا؛ فإنه مزَلةُ قدَمٍ لمن لا علم عنده ولا يقين، فإن الشيطان


(١) أخرجه مسلم (٢٦٤٥)، وابن حبان (٦١٧٧)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٤٢٢) موقوفًا على سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.
(٢) قوله: (ونطقت به إرادته) أي: تعلقت ثم رأيته هكذا في نسخة، فلعل الناسخ حرفه بـ (نطقت) اهـ "مدابغي"
(٣) تقدم تخربجه قريبًا (ص ٢١٢).
(٤) أخرجه البخاري (٦٤٦٣)، ومسلم (٢٨١٦) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(٥) تقدم تخريجه قريبًا (ص ٢١٢).

<<  <   >  >>