للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكامل لا يحجبه ظاهرٌ عن باطنٍ، ولا باطنٌ عن ظاهرٍ، بل يعطي كل مقامٍ حقه، وكل حالٍ وَفْقَه.

(فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام، ولا يغرَّنَّ ذا الكثرة ما في يده؛ فإنه ليس بحوله وقوته، بل اللَّه تعالى هو المتفضِّل به عليه، فينبغي له مع ذلك ألَّا يغفل عن سؤال اللَّه تعالى إدامةَ نعمته عليه؛ لئلَّا تنفر عنه فلا تعود إليه؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما نفرت النعمة عن قومٍ فعادت إليهم" (١).

(أُطْعمكم) أي: أُيسِّر لكم أسباب تحصيله؛ لأن العالمَ جمادَه وحيوانَه مطيعٌ للَّه تعالى طاعةَ العبد لسيده، فيُسخِّر السحابَ لبعض الأماكن، ويحرك قلب فلانٍ لإعطاء فلان، ويحوج فلانًا لفلانٍ بوجهٍ من الوجوه؛ لينال منه نفعًا، فتصرفاته تعالى في هذا العالم عجيبةٌ لمن تدبرها: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وفيه إشارة إلى تأديب الفقراء، وكأنه قال لهم: لا تطلبوا الطُّعْمة من غيري؛ فإن مَنْ تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم، فاستطعموني أطعمكم.

(يا عبادي؛ كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وفي هذا جميعِه أوفى تنبيهٍ، وأظهر تقريرٍ على افتقار سائر خلقه تعالى إليه، وعجزهم عن جلب منافعهم، ودفع مضارِّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، فلا حول ولا قوة إلا به، ولا استمساك إلا بسببه.

وممَّا نُقل عن حِكَمِ عيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: (ابنَ آدم؛ أنت أسوأ بربك ظنًا حين كنت أكمل عقلًا؛ لأنك تركت الحرص حين كنت جنينًا محمولًا، ورضيعًا مكفولًا، ثم ادَّرَعتَهُ عاقلًا قد أصبت رشدك، وبلغت أشدك) (٢).

(يا عبادي؛ إنكم تخطئون) ضبط بفتح أوله وثالثه، من (خَطِئَ يَخْطَأ)، إذا


(١) أخرجه ابن ماجه (٣٣٥٣) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.
وفي هامش (ج): وأَحْسَنَ مَنْ قال: (من المتقارب)
إذا كنتَ في نعمة فارعَها ... فإنَّ المعاصي تزيلُ النِّعَمْ
وداوِمْ عليها بشكر الإلهْ ... فإنَّ الإله سريعُ النقمْ
(٢) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (٤/ ٤٧٧). ومعنى ادَّرَعه: لبسه كما يلبس الدرع.

<<  <   >  >>