وهو العمد مع الذكر اختيارًا، أو لا عن قصدٍ واختيارٍ وهو الخطأ أو النسيان، أو الإكراه، وقد علم من هذا الحديث صريحًا: أن هذا القسم معفوٌّ عنه، ومفهومًا: أن الأولى مؤاخذٌ به، فهو نصف الشريعة باعتبار منطوقه، وكلها باعتباره مع مفهومه، ثم العفو عن ذلك هو مقتضى الحكمة والنظر، مع أنه تعالى لو واخَذَ بها. . لكان عادلًا، وذلك لأن فائدة التكليف وغايته: تمييزُ الطائع من العاصي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وكلٌّ من الطاعة والمعصية يستدعي قصدًا ليرتبط به ثوابٌ أو عقابٌ، وهؤلاء الثلاثة لا قصد لهم، أما الأولان. . فظاهرٌ، وأما الثالث. . فلأن القصد لمُكرهه لا له؛ إذ هو كالآلة، ومن ثم ذهب أكثر الأصوليين إلى عدم تكليفهم.
فعلم أن في هذا الحديث دليلًا لأظهر قولي الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: إن الناسي للمحلوف عليه ولو بطلاقٍ أو عتاقٍ والجاهل به لا يحنثان، لكن لا تنحل اليمين على الأصح (١)؛ لأنا إذا لم نُحَنِّثْهُ. . لم نجعل يمينه متناولةً لما وجد؛ إذ لو تناولته. . لحنث، كما لو قال: لا أفعله جاهلًا ولا ناسيًا، وقال مالك: يحنثان؛ لأن المرفوع إنما هو إثم الخطأ والنسيان لا ذاتهما، وهو تقديرٌ يحتاج لدليل، وأن من تكلَّم في صلاته كلامًا قليلًا ناسيًا، أو أكل ولو كثيرًا في صومه، أو جامع فيه أو في نسكه. . لا شيء عليه، والفرق: أن الصلاة لها هيئةٌ مُذكِّرةٌ دون الصوم، فكان الإكثار مع النسيان عذرًا فيه دونها.
وفيه دليلٌ لما عليه جمهور العلماء: أن جميع أقوال المكرَه لغوٌ لا يترتب عليها مقتضاها، سواء العقود والفسوخ وغيرها، والأصح عندنا كالجمهور: أن المكره لا يحنث أيضًا، واستدل له الشافعي فقال: قال اللَّه جل ثناؤه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
وللكفر أحكامٌ، فلما وضع اللَّه تعالى الإثم. . سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس. . سقط ما هو الأصغر منه، ثم استدل بهذا
(١) أي: لأنها إنما تنحل بفعل المحلوف عليه، والمفعول مع النسيان والجهل ليس محلوفًا عليه؛ كما قاله الشارح. اهـ "مدابغي".