للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: ١٠٣).

فرأى أبو بكر والصحابة- رضي الله عنهم- قتالهم جميعهم، الصنفان الأولان لكفرهم والثالث لامتناعهم، والامتناع مع الإقرار يختلف حكمًا من الامتناع مع الجحود ولا شك في ذلك أبدًا.

وقد ذكر أبو العباس القرطبي (٦٥٦ ت: هـ) في "المفهم"-رحمه الله-:

أن الصنف الثالث هم الذين أُشْكِلَ أمْرُهُم على عمر وراجع فيهم أبا بكر حتى ظهر الحق. ولا يعتبرون كفارًا وإنما بغاة. (١)

وهذا التقسيم الذي ذكره أبو العباس القرطبي قد ذهب إليه جمع من أئمة الإسلام، منهم الإمام الشافعي (ت: ٢٤٠ هـ) حيث يقول- رحمه الله: -- بنحوه- في "الأم"

"وأهل الردة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضربان: منهم قوم كفروا بعد الإسلام، مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات".

ثم أشار إلى أن أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- كانا مجمعين على إن الصنف الثاني ليسوا كفارًا.

فيقول بعد أن ذكر ما دار بينهما من حوار:

" … معرفتهما معًا بأن ممَّن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان". (٢)

وممَّن قرر هذا التقسيم أيضًا الخطابيُّ (ت: ٣٨٨ هـ) حيث يقول رحمه الله- في "معالم السنن"-:

"الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنفًا منهم ارتدَّ عن الدين، ونابذ الملة، وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة- رضي الله عنه- بقوله: (وكفر من كفر من العرب)، وهم أصحاب مسيلمة الكذاب، ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنفًا آخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي". (٣)

وممَّن قرر هذا التقسيم كذلك ابن حزم الأندلسي (ت: ٤٥٦ هـ) في محض كلامه عن أصناف المرتدين حيث يقول-رحمه الله- في "المحلى":

" … والقسم الثاني: قوم أسلموا، ولم يكفروا بعد إسلامهم، ولكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فعلى هذا قوتلوا". (٤)

وقد قرر هذا التقسيم أيضًا جمع من العلماء الأعلام، منهم:

أبو عمر ابن عبد البرـ وابن المنذر، والماوردي صاحب التفسير، والقاضي عياض، وابن العربي المالكي، والبغوي، والنووي، وابن حجر، وغيرهم كثير. (٥)

وكذلك هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ) -رحمه الله-، ولقد كان له بعض الأقوال والتقريرات التي يبدو ويظهر منها أنه يرى أن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يفرّقون بين أصناف المرتدين، فيجعلون بعضهم كفارًا، كالمرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب، وبعضهم مسلمين بغاة لهم سائر أحكام أهل القبلة كما ذكر ذلك أبو العباس القرطبي في المفهم والنووي في شرحه لمسلم، ومن تلك الأقوال والتقريرات: أنه جعل قتال مانعي الزكاة من جنس قتال أهل القبلة، فقال- رحمه الله-:

"والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يرى قتالاً علي يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة،


(١) يُنظر: شرح النووي لمسلم حديث (٢٢، ٢٠) ويُنظر: المفهم للقرطبي حديث (١٨، ١٧) باب يقاتل الناس إلى أن يوحِّدوا الله ويلتزموا شرائع دينه.
(٢) الأم، للشافعي: (٩/ ٢٠٤).
(٣) أعلام السنن، الخطابي (١/ ٧٤١).
(٤) المحلى، ابن حزم (١١/ ١٩٣).
(٥) - يُنظر: الاستذكار، ابن عبد البر (٩/ ٢٦٦)، والإشراف على مذاهب أهل السنة، ابن المنذر (٣/ ٢٥٤)، والحاوي، الماوردي (١٣/ ٢١١)، وشرح السنة، البغوي (٥/ ٤٨٩)، شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: ٥١٦ هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط-محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣ م عدد الأجزاء: ١٥، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض (١/ ٢٤٣)، وعارضة الأحوذي، ابن العربي (١٠/ ٧٣)، وشرح صحيح مسلم، النووي (٢/ ٢٠٢)، وفتح الباري، ابن حجر (١٢/ ٢٧٦)، وإكمال إكمال المعلم، الأُبي (١/ ١٧٣)، وغيرها كثير.

<<  <   >  >>