للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه شيء مِمَّا نُسِخَت تلاوته.

خامسًا: أنه كان مرتب الآيات دون السور.

ومن هنا يتأكد لدينا:

أن هذا الجمع كان مرتب الآيات في مواضعها في السور، ولم يُكتب منه إلا نسخة واحدة من القرآن، وقد حظى هذا الجمعُ على إجماع الصحابة ومن ثم على الأمة قاطبة، كما أجمعوا على تواتر ما فيه.

ولا يطعن في ذلك التواتر أن آخر سورة براءة لم يوجد إلا عند أبي خزيمة؛ فإن المراد أنه لم يوجد مكتوبًا إلا عنده، وذلك لا ينافي أنه وجد محفوظًا عند كثرة من الصحابة بلغت حد التواتر، وكان المعتمد عليه وقتئذ هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط، ومبالغة في الدقة والحذر. (١)

وختامًا لهذا المبحث الهام يحسن التنبيه هنا والتأكيد على خلاصة ما يلي:

أولًا: إن المتأمل في جمع الصديق رضي الله عنه يعلم يقينًا أن الباعث الأول عليه هو تحرِّ القتل في القراء يوم اليمامة، وقد قُتِلَ منهم عدد كبير ينتهي إلى السبعين وقد أنهاه بعضهم إلى خمسمائة. وكان الهدف الأسمى منه جمع القرآن في مكان واحد خشية ذهابه بذهاب حفظته.

ثانيًا: أن عمل الصديق رضي الله عنه هو جمع القرآن النازل الثابت قراءته في مصحف واحدٍ بعد أن كان مفرقًا في الرقاع واللخاف والأقطاب والعسيب، وهو القرآن الذي جمعه وكتبه كتَّابُ الوحي ودوّنوه بين يدي رسول صلى الله عليه وسلم، فكان عمل أبي بكر رضي الله عنه هو جمع ما تفرق من القرآن في مصحف واحدٍ فحسب، ذلك لأن القرآن الذي جمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في مصحف واحد بل كان متفرقًا، فَجَمْعُ الصديق هو نفس الجمع النبوي، غير أن الجمع النبوي كان مفرقًا، وجمع الصديقِ صار جمعًا للقرآن بين دفتي مصحف واحد.

ثالثًا: أن الصديق رضي الله عنه التزم في جمعه ترتيب سور وآيات القرآن وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، وهذا الترتيب هو الموافق للقرآن المثبت في اللوح المحفوظ لأنه توقيفي على القول الراجح، ولذا يبقى جمع الصديق للأصل الذي كان عليه القرآن في الجمع النبوي الأول مرتب السور والآيات، وهذا الأمر لا يمكن الحيد عنه إلا بنص واضح الدلالة؛ لأن الصديق انحصرت مهمته في جمع القرآن الذي جمع في العهد الأول مفرقًا، يجمعه في مصحف واحد متأسيًا ومتبعًا فيه ما انتهى إليه أمر الجمع الأول الذي أتمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد اتضحت أماكن السور والآيات واستقرت في ترتيبها المصحفي وفق ما استقرت عليه العرضة الأخيرة، أما كونه قد اقتصر في جمعه على إثبات وتقيد وكتابة ما ثبتت تلاوته وقرآنيته في العرضة الأخيرة مما لم تنسخ تلاوته فحسب، وإهمال المنسوخ منها، فهذا القول وإن


(١) - مناهل العرفان للزرقاني: (١/ ٢٥٣). بتصرف.

<<  <   >  >>