للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروى عوف عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء، هل يستطيع الذي يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه» .

وهذه الدواعي والوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده وانتقلوا بالأمور من بعده، فكان أبو بكر يتخلل عباءة له، وهو خليفة، فسمي ذا الخلالين، وكان عمر يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من ادم ويطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب بها الناس ويمر بالنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به ويطوف وحده في الليل عسسا ويتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وكان عثمان يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة، وجاد بماله وفدى الخلق بنفسه وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد، واشترى علي رضي الله تعالى عنه وهو خليفة قميصا بثلاثة دارهم وقطع كمه من موضع الرسغين وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه، ولم يزل يأكل الخشب «٩» ويلبس الخشن، وفرق الأموال حتى رش بيت المال ونام فيه وقال: يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري، وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها ويقنع في العاجل وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر.

وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في شهر رمضان قدمي غداءك المبارك وقالت ربما لم يكن إلّا تمرتين.

وروى عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما فقال: «ما أخرجكما» ، فقالا: الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أخرجني الجوع» ، فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل وقام فذبح لهم شاة، فقال له: نكب عن ذات الدّر «١٠» واستعذب لهم ماء علق على نخلة


(٩) يأكل الخشب: أي الطعام القاسي الجافي مع أن التنعم بإمكانه.
(١٠) ذات الدر: التي يعيشون من لبنها.

<<  <   >  >>