للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أجرى من إصلاحات مدنية وعسكرية، وكان السلم مستتبًا بين فارس، وبيزنطية في عام ٥٣٢م، وهي السنة الثانية من حكمه، ولكن كانت تبرز بين الحين، والآخر إشارات إلى عودة الصدام.

كانت بيزنطية لا تزال تنظر إلى فارس على أنها العدو الأكبر التي أحدثت على الدوام أوضاعًا مقلقة على امتداد الحدود الطويلة بينهما، فكان لا بد من إضعافها، وبرزت في القرن السادس ظاهرة السيطرة على طرق القوافل التجارية بين الشرق والغرب، كلما أن النزاع بين الغساسنة التابعين لبيزنطية، ومملكة الحيرة التابعة لفارس، شغل حيزًا كبيرًا من هذا القرن، فكان الاصطدام ضرورة سياسية واقتصادية، وأدت الحروب شبه المستمرة بينهما إلى فقدان الأمن على الطريق التجاري الذي يربط الخليج العربي بصحراء بلاد الشام عبر الفرات، وفقدت المنطقة أهميتها التجارية مما أدى إلى ضرورة تحويل طريق إلى غربي الجزيرة العربية، أو البحر الأحمر، لكن بيزنطية لم تيأس من احتمال تعزيز موقعها التجاري باستعادة بلاد ما بين النهرين، كما أن تحويل طريق التجارة إلى غربي الجزيرة العربية أفقد الفرس عنصرًا مهمًا من قوتهم؛ لذلك تطلعوا إلى السيطرة على بلاد الشام ومصر، ملتقى جميع الطرق الشمالية، والجنوبية آنذاك١.

وكان الحرير في ذلك الوقت قد أضحى أحد أهم عناصر التجارة الشرقية وأثمنها، وأدى احتكار الفرس لهذه التجارة إلى إثارة قلق بيزنطية، ورغبتها في البحث عن حل؛ لأنها كانت تستورد الحرير وتستعمله في الصناعة، كما كانت معظم مكاسب الفرس من هذه التجارة تنفق على القوى المسلحة الساسانية، لذلك حاول جستنيان أن يقلص هذه المكاسب، فخفض أسعار الحرير، ورد عليه الفرس بتقليص المبيعات٢.

لهذه الأسباب كان الصراع بين الدولتين تجاريًا في جانب مهم منه، وعمدت الدولتان إلى تقوية حلفائهما من البدو، أو إنصاف البدو واتخاذهما رأس حربة في هذا الصراع، فكان الغساسنة والمناذرة حلفاء البيزنطيين، وحلفاء الفرس.

وإذ أدرك الإمبراطور الفارسي كسرى الأول ما للإمبراطور البيزنطي جستنيان من أطماع في الغرب، وبأهمية مصالحه على الحدود الشرقية، استغل الموقف، وانتهز فرصة استنجاد القوط الشرقيين به؛ فنقض الصلح، وهكذا لم يستمر السلام الأبدي سوى بضع سنين، وبدأ من جنديد العداء السافر بين الطرفين.


١ Miller, J. Innes: The Spice Trade of the Roman Empire: p ٣٢-١٢٠.
٢ سحاب، فكتور: إيلاف قريش، رحلة الشتاء والصيف ص١٠٠.

<<  <   >  >>